763: رمزيةُ المكان والزّمان

رمــزيَّةُ الـمكان والــزَّمان
السبت 6 تشرين الأول 2012
-763-

أَمُرُّ أَمامه تقريباً كلّ يوم، في ذهابي إلى الجامعة أو عودةً منها.
وكلّما حاذَيــتُهُ يَلفتُني هَيكلُه المتداعي منخوراً بأَصوات زمانٍ مالـحٍ جرَّحه وزعزَعَ أَوصاله، لكنه ظلّ صامداً كأنه حارسُ الذاكرة الذي رَدَّ بصدْره تـنّين الحرب كي يُنقِذ من الـموت الـمدينة.
إنه “بيت بركات”، أَو “البيت الأصفر”، وعلى خصْره وَعْدُ أنْ سيكونُ “بيت بيروت”.
ها هي ذي إذاً بيروت: لا تكتفي بأن تَـحسُرَ عن صدرِها فتفتحَ قلبَها الكان مطموراً في التراب قروناً وتكشفَ لنا عن كنوزٍ في صمْتها الحامل حضاراتٍ مَـجيدةً تَتْرى من أَوّل الفينيقيين إلى آخر بني عثمان، بل يَـحضن قلبُها معالِـمَ ظاهرةً فيها، شَوَّهَت وجهَهَا الحربُ ولَـم تُلْغِ وجهها، فبقيَتْ شاهدةً على أَن كلّ مَعْلَمٍ فيها جذعُ أَرزةٍ تضربُهُ الريح فيصمُد، تُـهاجمه العواصفُ فيطحنها ويبقى عنيداً في شموخه اللبنانـيّ، عَميقاً في أَرض الوطن، مُـمتدّاً بأفنانه إلى الأربع الجهات حيثما أَبناؤُه عمَّروا مَـمالكَ وأَمـجاداً لا تَذروها عصور.
“البيتُ الأصفر” عنوانٌ أَساسٌ من تلك الـمعالِـم: منذ 1924 وهو صفحاتٌ يقلّبها التاريخ الحديث، حتى إذا هاجمتْها نارُ القنّاصة والقذائف والليالي الجاحدة، مَـحَت النارُ حروفاً منها لكنها لم تَـمْحُ صدى اليدِ التي كتبَت سطورَها المتوهِّجة.
قريباً (بعد سنتين؟) يستعيد “البيت الأصفر” ذَهَبَ الوجه والقامة، ليكون مُتحفاً مدينياً وأَولَ مركز ثقافي بلدي في بيروت، فاتحاً مرابعه لـمَعارض واحتفالات وندوات وإحياءات تَستعيد الأَمس من ذاكرة المدينة، وتَبني لها ذاكرةً للغدِ مُشْرقةً تليق بـها وبِـصُمودها عبر التاريخ في وجه كوارثَ ليست نكبةُ 551 إِلاّ إِحداها، فلا الطوفانُ زَحَلَها، ولا الزلزالُ مَـحَلَها، ولا بُركانُ 1975سَحَلَها، وبقيَت لنا مدينةً ضوئيّةً وعاصمةً مرئيّةً وأَرزةً مدينيَّةً ننتمي إليها بفرح الاقتبال.
“بيت بيروت”، أَبعدُ منه دوراً ثقافياً وثـمرةً لـجهدِ مُـجتمعٍ مـدَني ناضل كي يُنقذ “البيت”، هو رمزٌ لـمصالحة المدينة مع ذاتها: مع ماضيها باستذكار أَيامٍ سعيدةٍ وأَيامٍ مالـحةٍ، مع حاضرها الذي يُبادلها الوفاء، ومع غَدِها الطالعِ من أَمس الـموتِ الـمجانيّ إلى فجر الأمل الأرجوانيّ.
حبَّذا لو يكون لنا في كلّ بلدةٍ ومدينةٍ ومنطقةٍ من لبنان “بيتٌ للذاكرة” يَـحفَظُها من عوامل الآتي.
ويا حبّذا أَكثرَ بل أَهَـمّ: لو عندنا غداً “بيتُ لبنان” تكون له رمزيَّةُ الـمكان والزمان، يتصالح فيه لبنانُ مع لبنان، فيكون زمنٌ لأولادِنا طالعٌ نَـهارُهُ من عبرة حاضِرِنا، ويشعُّ ليلُه فرَحاً وأَعياداً ونـجومَ وطنٍ سعيدٍ تكون مُشرقَةً شُعاعاتُها من شَعَّة نجمة بيروت الـمضيئةِ بِــبَهائها “بيتَ بيروت”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*