“عند الواحدة بعد ظهر الأربعاء 25 نيسان 1973، فيما كان يودِّعني على الباب، سأَلني فجأَةً ببعض مرارة: “هل تعرف سياسياً لبنانياً كان عليه أَن يختارَ بين مصلحته الخاصة ومصلحة البلد فآثرَ مصلحة البلد على مصلحته الخاصة؟”. تردَّدتُ ثواني وأَجبتُه أَنْ ليس يَـحضُرني أَحدٌ من هذا القبيل. فصمتَ طويلاً وهزّ برأْسه عميقاً. لم أَكن أَعرف أَنّ تلك كانت الساعاتِ الأَخيرةَ من حياته. فبعد ثلاث ساعات من وداعي إِياه بلغني نبأُ وفاة الرئيس فؤاد شهاب بنوبةٍ قلبية حادّة”.
بهذا المقطع المؤثّر ختم الوزير فؤاد بطرس مقدمته لكتاب الصحافي نقولا ناصيف “جمهورية فؤاد شهاب”، الصادر طبعةً ثالثةً سنة 2011 عن “دار النهار” و”مؤسسة فؤاد شهاب” في 610 صفحات قطعاً كبيراً، غنيّاً بالوثائق والصوَر النادرة، و27 فصلاً رسمَت سيرة الرئيس فؤاد شهاب مراحلَ عسكريةً وسياسيةً ورئاسيةً جعلت منه متفرّداً في تاريخ لبنان الحديث حُكْماً وحِكمَةً واستحكام تقَشُّفٍ بلغ بعد غيابه أَن أَرملته الست روز انتهتْ “عجوزاً مُـمَدّدةً على سرير حديديّ عتيق وسط غرفةٍ لا تدفئة فيها ولا في كل البيت، مع أَن الطقس كان بارداً جداً في ذلك الكانون من 1991، قبل وفاتها ببضعة أيام”.
يلفت في كتاب نقولا ناصيف اختيارُه عناوينَ فصوله مغايرةً وذاتَ دلالةٍ مضمونيةٍ جذّابة إلى قراءتها: النُّبوءة، سرير الإمارة، الصامت الأكبر، سرُّ التنحّي، الرئيس و”الريّس”، الجوار الـمحيِّر، البارونات، الخيبة، القيصر، كرسي بكركي، وداع أَيقونة، وسواها من عناوين تُضمر في ثناياها معلوماتٍ جديدةً عن الرئيس اللواء، سافر لأَجلها نقولا ناصيف خارج لبنان مراتٍ مقابلاً أَشخاصاً ومنقِّباً في وثائق رسمية وخاصة، في فضول الصحافي المحترف ليعودَ فيسكُبَها في كتابه بأُسلوبٍ سائغٍ طَلِــيّ.
وأَحسن نقولا ناصيف في اختيار عباراتٍ من الرئيس شهاب صدّر بها فصول الكتاب. منها: “الاستقلال الحقُّ لا يؤخَذ ولا يُعطى. الاستقلال يُبنى”، ومنها: “لا أُريد أَن يكتُب عني أَحد، ولا أَن يدافعَ عن عهدي أَحد، ولا أُريد تبرير أَيِّ شيء. وحده التاريخ يبرّر. فالناس لم يقتنعوا بالكثير مما قمتُ به”. منها أَيضاً قول أَرملته الست روز: “مات فؤاد فلم يشهدْ ماذا يجري على أَرض وطنه، ولَـم يَــرَ كيف يهدمون ما صنع”، ومنها قول الرئيس: “كنتُ دوماً أُصاب بخيبة من السياسيين لأَنّ قسماً كبيراً منهم كان يتصرَّف خلافاً للقيَم”، ومنها هذه العبارة السيّافة: “ما حاولَتْ مرةً جهةٌ خارجيةٌ أَن تستغلّ فئةً في لبنان إلاّ أَثارت حساسياتِ فئات أُخرى معاكسة، بل استثارَت خصاماً وصداماً وفِتَنَ اقتتال. ليس من مصلحة لبنان أَن يسمح لأَيّ فريقٍ من أَفرقاء مذاهبه وطوائفه أَن يلجأَ إلى التدخُّلات الخارجية ليستقوي على أَفرقاء شعبه في الداخل”.
كتاب نقولا ناصيف “جمهورية فـؤاد شهاب” يؤرخ في دقةٍ سَلِسَةٍ وتَسَلْسُلٍ سيَّال مرحلةً من لبنان تَنَبَّه لها الرئيس اللواء وَنَــبَّــهَ عليها لكنّ نداءه كان صادقاً فلم يسمعْه أَحدٌ من “أَكلة الجبنة”. وفي قمة يأْسه منهم جمع أَوراقه كلَّها وعليها ملاحظاتُهُ ومذكّراتُهُ وتعليقاتُه ويومياتُه ومحفوظاتُه، وضَعَها في ثلاثة صناديقَ كبيرةٍ وأَعطاها لسائقه كي يُحرقَها دُفعةً واحدة. وحين في اليوم التالي اكتشف أَن سائقه لم يفعل، ثار غاضباً ونزَلَ إلى حديقة منزله في جونيه فأَحرقها ورمى رمادَها في ساقيةٍ صغيرةٍ تعبر حديقةَ منزله.
كان ذلك في 20 نيسان 1973. بعد خمسة أَيامٍ انطفأَ على كرسيّه، وبعد عشرة أَيام اشتعلَت في بيروت بين جيش لبنان وفصائل فدائيين فلسطينيين صداماتٌ كانت شرارةً أُولى دخَل بعدَها لبنان في أَتون حربٍ طويلةٍ شاهدَها فؤاد شهاب ولو انه لم يَشْهَدْها.