أَسوأُ ما في الانتظار: فقدانُ الأمل.
أَسوأُ ما في المصداقية: فقدانُ الثقة.
أَسوأُ ما في الاتجاه: فقدانُ الوُجهة.
هذا الحال الأخير كان هاجسَ أمين معلوف في روايته الجديدة “فاقدو الوُجهة” (Les Désorientés) الصادرة بالفرنسية قبل أيام في 544 صفحة قطعاً وسَطاً عن منشورات “غراسيه” في باريس.
يوعزُ أمين معلوف في أَحاديثه الصحافية والإعلامية }آخرُها لقاءٌ معه من إذاعة “فرانس كولتور” (France Culture){ أنّ “الناس والأمكنة في الرواية خارجَ أية علاقة بلبنان وأصدقائه”، مع أنّ نص الرواية واضحُ اللمح والإلماح والملامح إلى ذلك. كيف؟
فَلْنقرأْ: يعيش المؤرّخ المعروف آدَم في باريس منذ 1976مرتاحاً في البلاد التي استوطنها. ذات ليلة يستيقظ على رنين الهاتف وعلى صوت مُراد، أكبر أَصدقائه سِنّاً، يدعوه للعودة إلى وطنه كي يراه قبل أن يموت بمرض يفتُك به. حجز آدم في أول طائرة وعاد بعد غياب ربع قرن عن أرضه الأُم التي يحفظُها في قلبه “أرضاً جميلةً في الشرق، جبالُها حليبيَّةٌ بيضاء”. ويوماً بعد يوم، طوال إقامته في وطنه 16 يوماً (20 نيسان-5 أَيار 2001) كان ماضيه يستيقظ في قلبه وذاكرته ويتذكّر رفاقه نعيم وبلال وأَلبير ورامز وأَيامه ولياليه معهم خلال ليالي الحرب في وطنه. يكتب في أوراقه: “كنا في تلك الأيام نعيشُ أَفكار ﭬولتير وكامو وسارتر ونيتشه والسوريالية، فأَعادتنا أَيامُ الحرب مسيحيين ومسلمين ويهوداً، ولفحَتْنا تسمياتٌ فئوية وأحداثٌ انتحارية وكُرْهٌ نمَا متبادَلاً بين من كانوا على وفاقٍ وصداقة”. بعد وفاة مُراد طلبَت أَرملته تانيا من آدم أن يجتمع برفاق الأمس الذين بقوا في الوطن ولم يهجروا ولا هاجروا، فيحيوا معاً ذكرى رفيقهم الذي غاب. ومع يقينه أنّ ما كان لن يعود، اجتمع بهم واستذكروا أماكن ووجوهاً وأحداثاً، وزاروا مواقع من طفولتهم وشبابهم، لكنّ بينهم وبين ذاك الماضي طعماً مُرّاً غريباً لونُهُ انقطاع شرايين الأمس عن نبض الحاضر. كانوا شلة واحدة، فجاءت الحرب وقتلت في مهدِه مستقبلاً كانوا به يحلمون.
يكتب آدم في دفتره من جديد: “الحرب مرَّت من هنا. لم ينْجُ منها بيتٌ ولا طيفُ ذكرى. تغيَّر كلُّ شيء وتبدَّل كلُّ شعور: الصداقة، الحبّ، النَّسَب، الاندفاع، الإيمان، الإخلاص… حتى الموت تغيَّر وبات له معنى آخر”. لم يشعر أنْ بعدُ له مكان في هذا الوطن. حتى وجوهُ النساء لم تحفر في عينيه ذكرىً تعيده إلى الوراء: تانيا أرملة مراد، دولوريس صديقته القديمة، سميراميس حبه الأول في مطلع شبابه، وقَفَل عائداً إلى البلاد التي استوطنها، في قلبه غصةٌ لم يحدِّد لها هويةً ولا اتجاهاً. وجدَ كل ما في الوطن بدون هويةٍ ولا اتجاه. وجد أنّ كلَّ مَن فيه “فاقدو الوُجهة”، وقد يكون هو أيضاً فاقداً وُجهةً تركها فيه عندما هاجر منه قبل ربع قرن.
هذه خلاصةٌ سريعةٌ لرواية أمين معلوف (Les Désorientés) “فاقدو الوُجهة”. وفي حديث له عنها، قبل أيامٍ، قال: “منذ سنواتٍ أَعيش هاجسَ أنّ الوطنَ الذي أَنتمي إليه يتلاشى يوماً بعد يوم. روايتي وُلِدَت من هذا الشعور، ومن قضائي مطلعَ شبابي مع رفاقٍ فيه نحلم له بمستقبل أفضل. أَشخاص روايتي لا علاقة لهم برفاقي ولكنهم ليسُوا من خيالي، والوطن الذي في روايتي ولم أُسَمِّهِ، وطني وليس وطني… منه استلهمتُ تفاصيلَ روايتي وسيظلُّ يُلهمني حتى آخر حياتي… الوطن الذي يتيح لي أَعيش فيه مرفوعَ الرأْس، أُعطيه كلّ ما لديّ وأُضحّي من أجله… والوطن الذي أَعيش فيه مُطَأْطَأَ الرأْس، لا أُعطيه شيئاً. الوطنُ الذي هاجرتُ منه حزيناً وفقدت وُجْهَته، كجميع من هُم اليوم فاقدو الوُجهة، ليس هو الذي عرفتُه في شبابي بل هو الذي حَلِمْتُ به في خيالي ولم يولَدْ يوماً في واقع أيامي”.
ويَختم أمين معلوف حديثَه مكرِّراً بِحُرقةٍ عبارة جبران: “لا تقُل ماذا فعل لي وطني بل قُل ماذا فعلتُ أنا لوطني”.
ولكن وطن أمين معلوف لم يساعِدْه كي “يفعل” له شيئاً، بل دفعه إلى الهجرة منه صَوبَ… وُجهَة مفقودة.