الحلقة 1069: هذه الكلمات، هذه النغمات، هذه الأغنيات !!!
الأربعاء 17 تشرين الأول 2012
ظَلَّ عاصي ومنصور الرحباني سنواتٍ مضنيةً }من أواخر الأربعينات وطوال الخمسينات{يُنَقِّيان الكلمة المصفّاة للأغنية اللبنانية، وظلَّا مع أترابهما تلك الفترة وما بعدها }زكي ناصيف، فيلمون وهبه، روميو لحود، وليد غلمية، الياس الرحباني، وآخرين{، يُنَقُّون النغمة اللبنانية مما لحق بها وبالكلمات من بَدْوَنَةٍ ومَصْرَنةٍ كانتا تُبقِيان الأغنية هجينة: لم تصبح بدويّة ولا مصريّة ولم تعد لبنانية، فبقيَت تائهةً بلا هوية حتى جاءها الرعيلُ المبارك الذي ذكَرْتُه.
ظلَّ هذا العهدُ الذهبيُّ يتوهَّج بالأُغنية اللبنانية ساطعةً في لبنان وعلى العالم العربي وعالم الانتشار حتى سقوطِ الذهَب الأصيل مع فاجعة 1975 التي جرفَتْ معها موجات الأصالة، فَتَفَشَّتْ، كجميع إفرازات الحرب، فطرياتٌ وطحالبُ في الأُغنية اللبنانية دمَّرَتْها وأَعادتْها إلى رماد الكلمات ودمار النغمات، وإلى ما نَبَتَ على حفافيها الوسِخة من أَصواتٍ هي من أبشع خَلْق الله في التصويت والغناء، فصار كلُّ “حنشليلٍ” مطرباً، وكلّ “صُوصةٍ” مطربةً، واختلطَ السَّيِّئُ بالسَّيِّئ فطلَعَت علينا موجةٌ لا تزال تُقَرقِعُ آذانَنا من الإذاعات والتلافيز، “مُثَقِّفَةً” موجةً جديدةً من جيلٍ جديدٍ مبنيّ ذوقُه على أَسخف الأغنيات وحماقات ما تحْمِل من كلماتٍ ونغمات: من الكلمات ما يخجَل له كلُّ ذوق (تركيبات كلام يومي شارعي لا معنى فيه ولا ذوق)، ومن النغمات ما لا يبتعد عن إيقاع طرطقة الصحون في المطاعم وطقطقة السكاكين والملاعق في المقاهي التي تقدّم المطرب مع الفراريج، والفنَّ السخيف مع الأراكيل، حتى بات الجمهور “الحبيب جداً” يطرب بالهزّ والفزّ في باحة الرقص، ويظنّ المغني أن جمهوره يطرب له ويعجب بإبداعه الغنائي.
يضاف إلى كل ذلك ضربُ الطبْل في الأغنية حتى ليطغى على الصوت والعزف والنغمات والكلمات، ولفظٌ من أَبشع ما خَلَق الله في فم الناطقين، فلم نعُد نسمع كلمة “حبيبْتي” بل “حبيبْتـé”، ولم نعد نسمع “إنتي” بل “إنتـé”، ولم نعد نسمع “غنّولو” بل غنولـoo”، إلى آخر هذا اللفظ المقرف يقذفُنا به مَن يظنُّون أنهم صاروا نجوماً فيستَكْرون فوراً حرّاساً شخصيين (body guards) ومدراءَ أعمال، وينتعلون أَحذيةً أَطولَ من أَقدامهم، ويتمنطقون بنظاراتٍ شمسيةٍ سوداء كبيرة تزيد من سِحْنة الـ”لوك” الذي تتسابق المجلات الفنية على التنويه به لقرائها المعجبين بهؤلاء المطربين والمطربات، ويا عيب الشوم على اغتصاب كلمة “طرب” مـمّن هم أَدنى من مغنين ومغنيات.
وما كنّا نعير أَيّ اهتمامٍ لهذه الفوضى العاهرة في تفاهة كلام الأغاني وصفاقة الألحانِ الْبَعْضُها مسروقٌ وبعضُها الآخر منحولٌ والباقي حرتقاتُ آلاتٍ لا ميلوديا فيها، لولا أَنّ هؤلاء الـمُرتكبينَها يَـْحلَنْشِشُون بها ويَسبَطِرُّون علينا، فيُفسدون ذوقَ جيلٍ جديدٍ لا يتابع من الإذاعات والتلافيز إلاّ أُغنياتٍ تافهةَ الكلمات والنغمات والأَصوات، وهو يظنُّ أنّ هذا هو مستوى الأغنية اللبنانية التي تَعِبَ آباؤُها المباركون على تنقيتها من كلّ عيب.
ويا تعْسَ جيلٍ جديدٍ يَنشأُ على هذه الأغنيات، ويتغذّى بنيكوتين الأراكيل، ويحمل في يدٍ علبةَ سجائر وفي الأُخرى هاتفَه الخَلَويّ، فلا تَبقى له يدٌ يـحملُ فيها كتاباً يَبحثُ بـها عن معلومةٍ معرفيّة.
أما العلاقةُ المكسورة غيرُ العادلة للمغنّين والمغنّيات مع المؤلّفين والملحّنين، فَلَها حديثٌ آخَرُ نلتقي إليه في الحلقة المقبلة صباحَ الأربعاء المقبل.