الحلقة 1062: غَمْزَةٌ إلى القَمَر
الأربعاء 29 آب 2012
تاريخياً كان ذلك النهار: 21 تموز 1969.
يومها حطّ أولُ إنسان من أرض البشر على أرض جارنا الكوكب الفضيّ.
بعد أَيام على مغادرته كوكبَ الأرض في سفينة الفضاء “أَﭘّــولُّو 11″، حطّ ابنُ التاسعة والثلاثين نِيل أرمسترونغ على سطح القمر، فافتتح بذلك أولَ خطوةٍ ناجحة للإنسان في غزو الفضاء، وكان أول رائد فضاء في التاريخ يطأُ أرض القمر.
وكم بليغةً كانت عبارتُهُ لدى عودته: “إنها خطوةٌ صغيرةٌ للإنسان، لكنها كبيرةٌ للإنسانية”.
بهذا التواضع تَرجم نِيل أرمسترونغ إنْجازَه التاريخي الفريد، وبالتواضع نفسه عاش بعدها لثلاثٍ وأربعين سنةً، حياةً أكاديميةً عاديةً هادئةً هانئة، لكنّ كلّ رئيس جمهورية أميركي كان يدعوه إلى احتفال التسلُّم والتسليم، وإلى كل احتفالٍ رئاسي رسمي، على أنه “بطل أميركي” بكل معنى البطولة من “ريادة وإنـْجازٍ سَبّاق لـمجد الأُمّة الأميركية”.
السبت الماضي، توفّي نِيل أرمسترونغ فَنَوَّه به الرئيس أوباما كـ”أحد أكبر الأبطال الأميركيين، لا لـزمانه بل لجميع العصور”، وودّعه كثيرون من كبار العصر في العالم، على أنه “قَدَّم البشرية خطواتٍ تغنم منها وسوف تغنمُ بعدُ الكثير”.
في مطلع هذا الأُسبوع، نشرَت عائلتُه وصيةً مؤثِّرةً لا بفداحة الخسارة ولا بتفجُّع الفقدان، بل بالتواضع نفسه الذي عاش فيه نِيل أرمسترونغ حياته بعد إنجازه التاريخي. جاء في الوصية: “كان نِيل أرمسترونغ بطلاً أميركياً يَعتبر العملَ الذي قام به مـُجرَّدَ واجبٍ خدَم به أُمَّتَه. وكان دائماً يدعونا إلى التواضع والطموح والعمل من أجل تحقيق الأحلام الكبيرة. فالأحلام في رأْيه لا حدود لها: تتخطّى المسافات وتخترق الكواكب والـزّمن، ويُـمكن تحقيقُها بالعمل الجادّ المثابر بدون ادّعاء. فـإلى من يَوَدُّون أن يكرِّموا هذا الرجل الكبير، وصيَّتُنا بسيطةٌ تنحصر بنقطتين. الأُولى: التمَثُّلُ به خادماً بلادَه بإنْجازٍ وتواضُع، والأخرى: كلّما خرجتُم في ليلةِ صحوٍ صافيةٍ ورأَيتُم القمر يَبتسم لكم من فوق، فَكِّروا بنِيل أرمسترونغ واغمزُوه وأنتم تنظرون إلى القمر”.
انتهت الوصية. بهذه البساطة أوصَت أسرة أرمسترونغ أن يتذكَّرَه العالَـم. لم يطالبوا بإقامة تمثال له، ولا بشارع على اسمه، ولا بحفلةٍ تأبينيةٍ يتبارى إليها الخطباء بعنتريات كلامية، ولا بأيّ عمل يطلبون من الدولة تحقيقه. لم يطالبوا إلاّ بالصمت الذي يشبه هذا الكبير المنسحبَ من الحياة في صمت، كما عاش حياته في صمت، وحقّق إنجازاً عظيماً للبشرية في صمت، وانكفأَ إلى بقيّة حياته في صمت، وفي تواضُع علماء وفقهاء وفلاسفة ينفَعون العالَـم وينسحبون منه في صمتٍ كأنّ مجدهم ليس من هذا العالَـم.
الصمت، التواضع، التفكير، والتمثُّل بأرمسترونغ نموذجاً للطموح الذي يتجذَّر في العمل الصامت وينجُم عنه نتاجٌ صامتٌ أبلَغُ من كل صوتٍ وكل كلامٍ وكل إحياءِ ذكرىً يتحوّل مهرجاناً للأحياء لا تحيةً للمحتفى بذكراه.
كأنما هذا قدَرُ الكبار: أَن يَـمُرّوا في الحياة مثالاً، فـإذا غابوا سرى مثالُـهم خالداً في السائرين.
وأَيُّ بلاغةٍ بَعدُ أفصحُ من أَن نكرِّم كبيراً: في التَّشَبُّه به، واستذكارِه في لفتةٍ إلى فوق، إلى القمَر السهرانِ فوق في صحوِ ليلةٍ صافية، وإِلقاءِ غَمْزَةٍ إليه يَفهَمُ منها أننا نُـحيِّي بِــها إنساناً من كوكبِنا زارَه يوماً وترك على أَرضه القَمَرية أَثَراً بَشَرياً في… حجم غَمْزَة !