حرف من كتاب- الحلقة 78
“الهرمل… الجمالُ ماءُ العينِ الزرقاء”- كامل جابر
الأحـد 19 آب 2012

إذا كانت العينُ الزرقاءُ عيناً نادرةً ذاتَ أزرقٍ مائيٍّ شفَّاف تنبَع جنوبيَّ الهرمل وتنسابُ طائِعةً لتذوبَ رافدةً من روافد العاصي، فكتاب كامل جابر عن الهرمل “الجمالُ ماءُ العين الزرقاء” ترجمةٌ نابضةٌ لهذا الجمال في هذه البقعة الجميلة من شَرْق لبنان.
كتابٌ موسوعيُّ الحجم، مربَّعُ الشكلِ كبيرُه، في 168 صفحةً أنيقة الإخراج والطباعة والألوان، نَشَرَتْهُ مع المؤلّف بلديةُ الهرمل، وساهَـمَت في صُدورِه وزارةُ السياحة.
بين كاميرا كامل جابر ونصوصِه الشاعريةِ الثاقبةِ البلوغِ إلى نبْض الصورة تعليقاً عليها، يتأَنَّقُ الكتابُ صفحةً بعد صفحة، فعلى كُلٍّ منها نبضةٌ من منظَرٍ، وقبضةٌ من كلِمات، ولْيتهادَ الجمالُ اللبنانيُّ الهرمليُّ على جناحَين من نَبضةٍ وقَبضَة.
ستةُ فصول أحاطَت بالتاريخ والمكان، بين آثارٍ تَعْتقُ على جدرانها العُصور، وجنى أرض مباركة لا يَعْتَقُ من خيراتها الجنى.
نفتح الكتاب، تبدأ الرحلة: هذه بِقاعُ الهرمل ربيعاً عروسُ ربيع، وشتاءً حسناءُ تلتحفُ الثلجَ لا بَــرْداً بل غَمْزةَ غِوى. وهذا قاموعُ الهرمل بوصْلةُ السهل، على عقاربِ حيطانه العتيقة تدورُ السنوات فتَشيخُ ولا يَشيخ. وهاتان صخرتا نَبُوخَذْنَصَّر كأنهما ذراعان لـِحَضْن التاريخ، وهذا دير مار مارون تُطلُّ من كُوَاه أَناشيدُ الصمت لراهبٍ يبارك تحتها العينَ الزرقاء، وهذا قصر المعلّقة قلعةٌ مهيبةٌ حجارتُها ولو بقايا، وهذه قناة زنوبيا تتسرَّب بين كهوفٍ ومغاورَ دهريّةٍ يحفلُ بها صَدْر الهرمل.
نُكْمِل؟؟ نُكْمِل: ها نحن في قلْب الهرمل بلْدةً وبلديّة، نديُمها ليلاً قنديلُ السهر، ونَجيُّها نهاراً تثاؤُبُ السهل، على أبوابها الختيارة أصواتُ قبضاتِ الأيدي، وفي زواريبِها وأحيائِها حكاياتٌ مائلةٌ على الحيطان، فيها بيوتُ الطين على سطْحِها وسامُ البَرَكَة من رُتبة مـَحْدَلَة، في غُرَفها الكوايرُ والخوابي، حولها التَّـــنُّورُ، بينها القُبَب، ومن إطلالاتها قصورٌ فخمةٌ أَنيقةٌ لا تُخجلُ قرميداً فَقَدَ بعضَ أَسنانه، أَو حَلَقاتِ أبوابٍ ناعِسٌ عليها الصَّدَأ ، أَو دَرَجاً مهجوراً نسيَ مع الوقت ميلوديا القَدَمين تَطَآنِهِ في لهفة الوصول.
نُكْمِلُ بعد؟؟ هيا. هذه جرودُ الهرمل تَعْتَمرُ الأبيضَ أَشهُراً طوالاً فلا يلْوي له شِلْحُ لَزّابةٍ عنيدة، وهذه أكواخُ الجُرْد وانفتاحُ الأحراج والغابات على مساحاتٍ بَكارى من خير الأرض. وهوذا سهلُ مَرْجْحِين ما زال يردِّد مواويل العتابا بصوتِ فتى جُرديٍّ من بشرّي اسمه جبران خليل جبران كان يُمضي الصيفَ مع أُسرته في مرجحين قبل أن حملَتْهُ أمُّه إلى أميركا ليحمل منها لبنانَهُ إلى العالم. ولأننا نكمل بعد، نصل إلى نهر العاصي، هذا العاصي على جميع الأنهار، يولَدُ عندنا من روافدَ وينابيع، ويَعصَى على الاتجاه: يَتَأَفْعَنُ عكسَ السير من أَعلى سهل البقاع إلى أسفلِ سهول حمص فيُدير نواعيرَها الضخمة ويُكمل إلى أنطاكيا دون سائر المشرق، ليبْلُغَ المرمى فَيَصُبَّ كنوزَه المائيةَ في أَزرقِ الأبيض المتوسط. وتهنأُ الجِلسةُ على نهر العاصي: عند العين الزرقاء، عند شلاَّلات الدردارة، عند سدّ حِيرة، عند شلال الشَّلمان، عند مُتَنزَّهات العاصي السياحية، عند طاحونة العَمِيريّة تقلقُ سكوتَها هسهسةُ سمك التْرْوِيْتْ متداعباً في مياه العاصي. ولشفافيّة الشِعر في كاميرا كامل جابر، تَخالُ مياهَ العاصي ستخرج من الصفحة إلى يديك.
ويكون ختامُ الرحلة مقاماتٍ ومساجدَ ومعابد، في منبسَطات القاع، على أَصداء “الله أكبر” من جامع الوقْف وجامع البيادر، وصدى الـكيرياليسون من كنيسة أَخَوات يسوع، وضريحَي الرئيس صبري حمادة والنقيب رياض طه، لنُغْلِقَ الكتاب على ريحة الأرض حَوراً ودِلْباً ولَزَّاباً وزيتوناً ونحلاً ومؤونةَ كشْكٍ ولَبْنةٍ وأَرغفةِ تَنُّـور وأَيدٍ طيِّبةٍ لحياكة السّجّاد وأَقفاص الحجل ومشاحر الفحم.
كتابُ كامل جابر، بالكاميرا والنَّصّ، عن الهرمل “الجمالُ ماءُ العينِ الزرقاء” دَفْقٌ نابضٌ من قلبِ لبنان إلى قلبِ كلّ لبنانيٍّ واعٍ فرادةَ لبنانَ الجمالِ على كُلّ شِبرٍ من أَرضه، وعند كُلّ فِلْذةٍ من كُلّ غَيمةٍ في قصيدةِ سَـمائِه الشاعرة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*