بين أبرز الآثار اللبنانية التي حسرَتْ عنها أرضُ الجنوب اللبناني: كنوزٌ دفينةٌ في صيدا وصُوْر.
وبين أحدث الحاصل: ترميمُ جوهرة التاريخ القديم “مدفن صُوْر” في حَرَم المتحف الوطني اللبناني. ولأنّ جدرانياته تَـحَتَّتَتْ مع السنوات، كان لا بد من ترميمها تقنياً لإعادتها إلى شكلها الأول، وهو ما قام به خبراء إيطاليُّون في ترميم الآثار القديمة، بدعمٍ من “المديرية العامة للتعاون الإنمائي” في وزارة الخارجية الإيطالية، والسفارة الإيطالية في بيروت.
حصيلةُ هذه الترميمات صدرَت في آذار الماضي كتاباً أنيقاً موثَّقاً، عن المديرية اللبنانية العامة للآثار في 112 صفحة حجماً كبيراً بنصوصٍ شارحةٍ وصُوَرٍ مشروحة لمراحل العمل منذ انطلاقه حتى انتهائه بصيغته الأخيرة الناصعة كما كان في الأَصل.
“مدفن صُوْر” من أبرز الفن الروماني القديم في العالم. يرقى إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وجدرانيّاته الساحرة التي تستريح اليوم في الطابق السفليّ من المتحف الوطني اللبناني، تعكس الفن الراقي زمنَ الأمبراطورية الرومانية، على طراز رسوم ﭘـومـﭙـايي الشهيرة بالجدرانيات القديمة جداً، وهي المدينة التي قرب ناﭘـولي مَـحاها بركان ﭬـيزوﭬـيو سنة 79 للميلاد، وبقي طراز جدرانياتها ساطعاً ومؤثِّراً في جدرانيات الفن الروماني القديم.
عن مقالٍ للمير موريس شهاب في “مجلة متحف بيروت” أنّ اكتشاف مدفن صُوْر تَـمَّ مصادفةً في حي “البرج الشمالي” سنة 1937، بفضل ما رآه الفلاح الصُوْري الحاج حسن في أسفل درجٍ عتيقٍ طويلٍ مغطّى بعُشبٍ كثيف. قصَدَ المكانَ العالِـمُ الأثري موريس دونان ليجد تحت الركام جدرانياتٍ مدهشةً في حالة جيِّدة وألوانٍ لا تزال على أَلقها الأصيل، تروي في رسومها ورموزها أساطير روما القديمة بأبطالها المعروفين: هرقل، وطنطال، ﭘـروزيرْﭘـينا وسواهم.
سنة 1939 تَـمَّ نقْلُ الجدرانيات، بحالتها الجيّدة، إلى المتحف الوطني في بيروت. وسنة 1975 عصفَت الحرب بلبنان حتى 1991، وكان المتحف خَطَّ التَّماسّ فهُجِر وهُجِّر، ولم تنفع تداركات مدير المتحف يومها المير موريس شهاب في إنقاذ جميع محتوياته، فبقي المتحف مُهْمَلاً سنواتٍ طويلةً تسرَّبَت خلالها مياهُ الأمطار إلى الطبقة السفلى وبقيَت فيها آسِنَةً بوُحولها ومجروفاتها، فَفَسُدَتْ كنوز الآثار، وبينها جدرانياتُ مدفن صُوْر: تَـحَتَّتَ معظمُها وباخت ألوانها وتَشَوَّهَتْ فيها الصُوَر.
بعد إعادة الحياة إلى متحف بيروت ببادرةٍ نبيلةٍ من “المؤسسة الوطنية للتراث”، تشكَّلت سنة 1997 بعثة أثرية لـ”مدفن صُوْر” برئاسة العالم وُوْرْنِر شْمِيْدْ قدَّمَت إلى المديرية العامة للآثار مـخَطَّطاً لإنقاذ روائع “المدفن”، فأَرسلَت الحكومة الإيطالية المهندس جيورجيو كاﭘـريوتّـي، الاختصاصيّ بترميم الجدرانيات الرومانية القديمة، عمِلَ مع فريق إيطاليّ متخصِّص على إعادة جدرانيات “مدفن صُوْر” إلى الألق، بدعمٍ خاص من “المؤسسة الوطنية للتراث” وبلغَت الكلفة 256 ألف يورو.
انتهى الترميم سنة 2010 وكان احتفالٌ بإنجازه ذكَّرَ بشعارٍ محفور على مدخل متحف كابول في أفغانستان: “تبقى الأُمَّةُ حَيةً ما دامت حيةً ثقافتُها”، وهو ما ينطبق على “مدفن صُوْر” في مسيرة تراثنا الثقافي: أن يكون ماضي لبنان العريق حياً بـجدرانيات جميلةٍ، في أساطيرِها رموزُ الحياة والأمل، عمل المرممون والخبراء وعلماء الآثار على حفْظها من تَلَف السَّنوات السحيقة.
كتاب “مدفن صُوْر” يروي مراحل العمل على إعادة هذا الكنز إلى النور. وها هو اليوم نورٌ تاريخيٌّ عريقٌ فريدٌ يستريح في الطبقة السفلى من المتحف الوطني في بيروت التي يَـحسُرُ قلبُها عن كنوزٍ رائعةٍ من تاريخ أَرضنا التي تختزن أَروعَ صفحات التاريخ.