الحلقة 1056: في لبنان ضفادع
الأربعاء 18 تموز 2012
بين أجمل قصائد لافونتين: تلك التي عن ضفدعٍ رأى ثوراً فأعجبَه حجمُه المهيب وتناسُق شكله، حتى كأَنْ خجِلَ من حجمه الضفدعي الضئيل، وأراد أن يُصبح ضخماً كالثور، فجعل ينفُخُ صدره وبطنه وكلَّ ما فيه، حتى انفَجَر.
وسرى هذا المثل عن كلّ قاصرٍ في أمرٍ يشاءُ أن يتشبّه بمن هو أكبر منه وأضخم وأكثر حجماً ومهابةً فيبدو في مشيئته تلك مضْحكاً كاريكاتورياً لأنه ينمسِخ بِـما ليس فيه، فلا يعود كما هو، ولن يصبح كمن يشاء أن يتشبه به، فيُصبح مسخاً ولا يبلغ طُموحه الأجْوَف.
وإذا ظاهرُ المعنى في الشكل والحجم، فباطنُه أعمق وأبلغُ حين ينطبق على المعنى المجازيّ للانتفاخ وهو ألعن وأسخف.
أقولُ هذا وفي بالي صورةُ مسؤولين “موهوبين” بالتصاريح والخُطَب لا ينفكُّون يطلقون لسانهم الذَّرِب أمام كاميرات التلـﭭـزيون وميكروفونات الإذاعات، يتحدَّثون في كل شيء، في كل موضوع، في كل شأْن، في كل حقل، في كل ميدان، في كل اختصاص، يطْلقون فيه أحكامهم وأفكارهم وآراءهم وحلولهم وبرامجهم، وهُم أبعدُ ما يكونون عن هذا الاختصاص.
في الاقتصاد يتكلّمون، في الكهرباء، في المال، في الآثار، في المعاهدات، في الأمن، في الزراعة، في القوانين، في الدساتير، في التشريع، في النُّظُم العالمية، في المعاهدات السياسية، في العلاقات الدولية، في السياسة الخارجية، في كلّ شيء، كلّ شيء، وليس أيُّ حقل من تلك المسمَّيَات في اختصاصهم أو في صُلب مسؤولياتهم، لذا ينظِّرون فيه سَطْحياً لأنهم ليسوا هُم من درسوه أو عالجوه، بل معاونُون وخُبراء واختصاصيُّون درسوا وراجعوا وخطَّطوا واستنتجوا وبرمجوا وصمّموا، حتى يأتي حضرة المسؤول فينفخ صدره ووجهه ولسانه وعينيه وصوته، ويروح “يَبِيضُ” على الصحافة والإعلام آراءَه في الموضوع: يُسَخِّف سواه، ويهزأُ من أفكار غيره – وقد يكون غيرُه ذا اختصاص علميّ في الموضوع – فيبدو هذا المسؤول الأَشْوس ضفدعاً ضئيلاً يريد أن يتشبّه بحجم الثور.
مشكلةٌ كبرى هذا التنطُّح لكل موضوعٍ من منطق أن الناطقين به يفهمون فيه وينظِّرون له ومنه وفيه.
والأنكى في هذه المشكلة: إلغاؤُهم ُالقَبْل والبدءُ بهم، كأنما كلُّ القَبْل كان خطأً، وما يبنونَه هُم هو الصَّحُّ ويبنى عليه منذ تناولوه هم في مسؤولياتهم. يُلغون ما سَبق، وينَظِّرون لـِما هُم يبنون، ويا تعاسةَ ما يَبنون، لأنه قصرٌ من ورق، انطلق من الورق، وسيبقى على الورق. وإذا كان من نقصٍ في ما ينَظِّرون له، ينسبون النقص إلى أسلافهم، ويدَّعون بأنهم – يا عافاهُم ربُّ العالمين – جاؤوا يصْلحون أخطاء أسلافهم ويفضحون مثالب سواهم ويعرضون حلولهم هُم ويتبجَّحون بما تصنع أَيديهم.
كلُّ هذا، والمواطن يرى، والمواطن يشاهد، والمواطن يعاني، والمواطن يئنُّ من انتظار، والمواطن يغضب، والمواطن يلعن الساعة التي جاء فيها هؤلاء المسؤولونَ مسؤولين، تتهافت محطات التلافيز على استضافتهم في جواهر الـ”توك شو” فيَجْلُدون المشاهدين سهراتٍ كاملةً يتبجَّحون بمآثرهم، يُدلون بتنظيراتهم، يحاجِجُون الضيوف معهم في الحلقة، إن لم يجمح البخار في “يأْفوخهم” فيهجموا على الضيف الآخر بالكلام أو بالحذاء أو بضرب البوكس.
نصفُ مصيبتنا في لبنان أن هؤلاء ضفادعُ ضئيلو الفكر والفهْم والحضور، يريدون أن يكبروا، لذا ينفخون صدورهم وبطونهم وأَلْسِنَتَهُم.
والنصفُ الآخر من مصيبتنا أنّ وراء هؤلاء الضفدعيّين مَن يؤْمنون بهم ويصدِّقونهم ويَرَون فيهم عباقرةَ تنظير وتفكير ومصير، ولا يدْري هؤلاء الأزلام أنّ لسانهم تحت مبرد ضفدعيين حين سينفجِرون من شدة الانتفاخ لن يبقى لأَتباعهم لسانٌ ولا حتى ليَلْعَنوا أَشْلاءَ ذاك الانتفاخ.