تَسْعَدُ هذه الحلقة، نَهارَ الأَحَد، بالإضاءة على كتابٍ عن لبنان لكاتبٍ لبنانيّ، وتَسعَدُ أَكثرَ حين واضعُ الكتابِ غيرُ لبنانيّ، كما هي حلقةُ اليوم.
في تشرين الثاني 1896 وصل إلى بيروت الكاتبُ المستشرقُ الأوكراني أَغَاتِنغِل كْرِيْمْسْكي، ليُمضي في ربوعنا سنةً وبعضَ سنة، ساكناً لدى عائلة عطايا في مَحلة الرميلة من منطقة الأشرفية. وحين غادر لبنان في نَوّار 1898 كانت حصيلةُ إقامتِه في لبنان مقالاً لغوياً نَشرَتْهُ مَجلةُ “المشرق”، وأَبْحاثاً لغويةً في العربية الفصحى وفي اللبنانية الْمَحكية، ومَجموعةً شعريةً بعنوان “سَعْفُ النخيل”، وعشراتِ الرسائل إلى ذويه وأَصدقائه صدَرَت لاحقاً بعنوان “رسائل من لبنان 1896-1898” كَتبَ فيها انطباعاتِه ومشاهداتِه ومعايَناتِه وانسحارَه بلبنان، وهذه الرسائل هي التي تعنينا في حلقة اليوم.
في إحدى آخر رسائله كتب: “عِشْتُ أشهراً مُلَوّنةً بالسعادة الغامرة في هذا البلد الرائع”، وفي رسالة أُخرى كَتَبَ عن الأطعمة اللبنانية الشهية، وفي رسالة أخرى، وهو الباحث اللغوي، كتَبَ بأنّ “في لبنان غِنى كتابةِ لُغةٍ هي العربية الفصحى، وغِنى النُّطق بِلُغَةٍ أخرى هي المحكية اللبنانية”.
وَتَوَلَّهَ كْرِيْمْسْكي ببيروت، فكتَب الكثير عن شَغَفِه وَتَعَلُّقِه بِها، كما في هذا المقطع: “بيروت مدينةٌ أخّاذةٌ، تُطِلُّ على البحر في سِحْرٍ هادئٍ، تَغْمُرُها الحدائق من كُلّ صوب: نَخيلاً وتيناً وبرتقالاً. شوارعُها أوروپّيّةُ التصميم، أبنِيَتُها أنيقةٌ على بساطة، أهلُها طَيِّبُون حتى إحراج زائرِهم… رائعةٌ بيروت، رائعةٌ في كُلّ فصل وكُلّ موسم. إنها أجملُ مدينة زُرناها في هذا الشرق. ولو كانت أرضُ غُرَفها خشبيةً لا حَجَرية، لكانت فيها بيوتُ الجنة بلا منازع. القسطنطينية جميلة من البحر لكنها قبيحةٌ من الداخل. بينما بيروت جميلةٌ من الخارج ونظيفةٌ من الداخل أيضاً، ولا يشبه سحرَها سحرُ أيّة مدينة أخرى”.
وفي رسالة أخرى كتب عن الأعياد والمواسم التي عايَنَها، ومنها: اثنين الراهب، أَحَدُ الشعانين، عيدُ الفطر، عرسٌ لبناني، والريح البحرية التي تلفح بيروت.
وعن حديقةٍ في الأشرفية كتب: “أمامي حديقةٌ جَميلةٌ ساحرة. عندما يطل عليها المساء ويهل القمر، تتنشر عطورُ الزهر بين الأشجار المثمرة، فيتوزّع ضوء القمر على موجات البحر وتلافيف الجبل، ويسرح بين البيوت وأَشجار البويوسفي والبرتقال والليمون والتوت والتين واللوز والفلفل والحنّاء والكافور والكينا. وكلما صَفا الجوُّ ربيعاً أو صيفاً، تَتَمَدَّد بيروت على سرير البحر شبهَ جزيرةٍ جبليةٍ هانئة، تستلقي على خصر المتوسط وسْطَ مُروجٍ خضراءَ وحقولٍ خصيبةٍ وحدائقَ مزهرة. إن في جمال بيروت مُخدِّراً كعبَقِ زهورِها، يَشُدُّ إليه زائرَها فيتمنّى أَلا يغادرها ولو إلى بلاده الأم”.
بهذا الحُبّ العالي كتَب أَغَاتِنغِل كْرِيْمْسْكي عن لبنان، بكل شغفٍ وحنينٍ وَوَفاء.
ولاحقاً، بعدما نفاه جهازُ مُخابراتِ النظام السوفياتي بعيداً بعيداً إلى معسكرِ اعتقالٍ في كازاخستان لأنه لم ينضَوِ في الشيوعية، لعلّه حين ماتَ، عن سبعين عاماً، وحيداً مقهوراً ذاتَ ليلة عاصفةٍ من كانون الثاني 1942، كان في قهره حَنينان: إلى أوكرانيا بَلَدِه، وإلى أَيّامه في لبنان.
اليوم، ونَحن نَحتفلُ بذكْرى وصوله إلى بيروت قبل 115 سنة، نُحَيّي ذكراه زائراً بادَلَ لبنانَ الوفاءَ، وغَمَسَ قلمَه في حُبّ بيروت، بيروتِنا الغاليةِ التي لا يُمكن مَن يزورُها إلاّ أن يَذوق فيها موسمَ الْحُبّ، وعُذُوبَةَ لبنان.