حرف من كتاب- الحلقة 40
رواية “قاديشا”- ألكسندر نجّار
الأحد 13 تشرين الثاني 2011

بأسلوبِهِ السَّلِس الذي يُلاعِبُ لُغَةَ راسين في بَرَاعةٍ روائية وموهبةٍ خلاّقة وطِلاوةٍ أسلوبية، أَصدَرَ أَلِكْسَنْدْر نَجّار روايتَه الجديدة “قاديشا” بالفرنسية عن منشُورات “پلون” (Plon) في پاريس، من 240 صفحة قطعاً وسطاً مع صورة الغلاف لبلدة بشَرّي يعانقُها الغيم قُبَلاً بيضاءَ جميلةً تَنْهَمِلُ على وادي قاديشا.
في مقدمة الكتاب رَسَمَ أَلِكْسَنْدْر نَجّار أنّ “الكتابة، كالقراءة، سَفَرٌ جَميلٌ إِلى الأماكن والأسماء والأَشخاص، تَتَمَاهَى الرحلةُ في الكتابة كما الخيال في الواقع، وجهَين لِحقيقة واحدة”. ثُمّ يُدخل قارئه إلى جَوّ وادي قاديشا الذي “تتصاعد منه روحانيةٌ تَجعلُ أكثرَ الزوّار تشاؤُماً يَخشَع جاثياً من رَهبةٍ وإيمان”.
الرواية قسمان: أَوّل بعنوان “هروب” من تسعة فصولٍ قصيرةٍ على لسان بطل الرواية سامي، وتفاصيلَ مع صديقته الفرنسية فلورَنْس وصديقه الدليل كيندي، والقسم الآخَر بعنوان “بين أرضٍ وفضاء” من خمس محطات: دير مار أنطونيوس قزحيا (وفيه أقدم مطبعة في الشرق تعود إلى سنة 1610)، كنيسة سيدة حَوْقَا (وفيها أَقدم مدرسة تعود إلى سنة 1624 وكانت تدرِّس سِتّ لُغات)، دَير قَنُّوبين (وفيه مغارة مارينا)، دير مار ليشَع (وفيه مَحبسةٌ سَكَنَها نُساكٌ عبر العقود)، والمحطةُ الخامسة على جبين وادي قاديشا: دير مار سركيس (وفيه جبران الجثمان والتراث والمتحف والكُنُوز الجبرانية النادرة). وفي هذه المحطة الأخيرة يضيءُ أَلِكْسَنْدْر نَجّار على لُمَحٍ من سيرة جبران في بشَرّي، وأَيامِه مع الصبيّة حلا الضاهر التي أَحَبَّها وحَرَمَهُ أهلُها من قصةٍ حُبٍّ عاصفةٍ بينهما، فسكبَها لاحقاً في روايته “الأجنحة المتكسرة” وخلّد حلا الضاهر في شخصية سلمى كرامة. وبعد ثلاثة أشهر من وفاة جبران في نيويورك نهار الجمعة 10 نيسان 1931، جيءَ بِجثمانه في آب، حتى إذا انتهَتْ مراسم الصلاة في الكنيسة وانتقل المصلّون وسط ضباب الصيف في بشَرّي إلى كهف دير مار سركيس ووضعوا الجثمان فيه وخرجوا، بقيَتْ جاثيةً في سكون الكهفِ سيدةٌ غارقةٌ في حزن ثيابها وحُزن ذكرياتها قبل ثلاثين سنة. تلك السيدة كانت صبيةَ الأمس التي أَحَبَّها جبران في بشَرّي: حلا الضاهر.
بِهذا الرونق الروائيّ الجميل نَسَجَ أَلِكْسَنْدْر نَجّار روايتَه “قاديشا” عن ذاك الشاب البشرّاوي سامي رحمة الذي، ظُهْرَ يومٍ من وظيفته المصرفية في شارع المصارف من بيروت، قرّر أن يتركَ الوظيفةَ والمصرفَ والمدينةَ وكلَّ ما ومَن فيها، وينسحبَ إلى بلدته بشَرّي الْمُشْرفةِ على الوادي المقدس، وادي القديسين، وادي قاديشا، أَحد أَعلى المواقع الروحانية في الشرق. وحين عَلِمَ بأنّ صديقته الصحافية الفرنسية فلورَنْس هربَتْ من الأحداث الدامية الأخيرة في سوريا وجاءت إلى لبنان، دعاها إلى تَمضية أيامٍ هانئةٍ هادئةٍ معه في قاديشا، حتى إذا لم يتبقَّ من تأشيرة إقامتها في لبنان سوى يومين كي تغادر، باحت لصديقها سامي أنها لن تعود إلى فرنسا بل قرَّرَت البقاء في لبنان. سأَلَها لِماذا، فلم تُجِبْ، ومَدَّتْ إليه دفتراً أحمر دَوَّنَتْ فيه انطباعاتِها. فتح منه صفحة قرأَ فيها: “لَم يَخترقْني في حياتي شعورٌ بالحب والجمال كما أعطانيهِما وادي قاديشا الذي فيه تتعانق أرضٌ وسماء، وفيه عرفتُ سُكونَ الحبّ مُمتزجاً بسُكون الطبيعة في نقائها الأَصفى وبالحقيقة المباشَرة التي تَجعل الحُبَّ تَمْتَمَةً أُخرى للصلاة”.
بين روايات أَلِكْسَنْدْر نَجّار، لعلّ هذه الجديدة “قاديشا” أجملُها نشيداً للحُبّ، ولوحةً للجمال، وفِعْلَ إيمانٍ جديداً بِخُلود لبنان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*