عَوَّدْتُكُم صبيحةَ كُلِّ أَحدٍ أن أَقطِف حرفاً من كتابٍ عن لبنان، أَقرأُ لكم منه أو عنه في بضع دقائق.
اليوم سأَقطِف لكم حروفاً من كتُب، جميعُها – كالعادة – عن لبناننا الغالي، إضاءةً في ذاكرتِكُم على وطننا الذي يغرق هذه الأيام في غُيوم مُلبَّدة، ونَحن نرى إليه دائماً أَعلى من تلك الغيوم وأَبعد وأَسمى.
سنة 1934 أصدر الشاعر اللبناني في الفرنسية شارل قرم رائعتَه الشِعرية “الجبل الملهم”، وفيه مقطعٌ هنا ترجمتُه:
“يا سيّدة لبنان، أَيتها الأرزةُ الواسعةُ الظلال، إجعلي من أغصانك الخضراء سقفَ حمايةٍ لأولادَكِ
حتى إذا هَدَّدَهُم إعصار، وَزَأَرَ فيهم إبليس، تَحلَّقوا تَحت أغصانكِ فيَحميهم أَمانُك الغامر”.
وسنة 1881 زار لبنان الرحالةُ الفرنسي ڤيكتور غيرين (Guérin) على رأْس بِعثةٍ فرنسية، فعاد إلى فرنسا وكتب تقريراً مُسْهَباً عما شاهده، هنا ترجمةُ مقطعٍ منه: “لبنان إحدى أجمل المناطق الجبليّة في الأرض. له هيبةٌ وعظمةٌ تلفِتان السائح الذي لم يَرَ حتماً ما يُماثلُ شعورَه وهو يرى من بعيدٍ هذه السلسلةَ الجبليةَ الطويلة والجميلة، خصوصاً حين تُلَوِّحُها أَشعَّةُ الشمس عند الغروب، فإذا بكُتَل الثلج المتكوِّمة على التلال تَتَغيَّر توَهُّجاتُها من لفحة الذهب إلى لفحات فضةٍ لا أنقى ولا أَبْهى. وحين تذوب قممُه في عتمة الليل تُشَعْشِعُ فوقَها ثُرياتُ نُجومٍ تُرصِّع الفلَك الذي كأنَّما تلالُ لبنان ترفعُ قُبَّتَه على راحتَيها، أو كأنّ في الفلَك مناراتٍ سماويةً تنوّر جبال لبنان. مراراً تأَمَّلْتُ هذا المنظر، وكلَّ مرة كنتُ أُحبُّه أكثر وأَنتظر أَن أَعود فأَراه. ففي خصائص لبنان أنّ الله حباه جمالاً فريداً لا يعادله جمالٌ، يشدُّ إليه الروح والنفس والقلب وخيالَ مَن يعرفون أن يروا إلى الطبيعة في خشوع الإيمان”.
وسنة 1860 وضع الرحَّالة وعالِمُ الآثار الفرنسيُّ إرنست رينان كتابه “مهمة في فينيقيا” بعد قضائه سنتين في ربوع لبنان، وجاء في كتابه هذا المقطع وترجَمتُه: “ساحِرٌ مذهلٌ هذا اللبنان. فيه بقايا عطرٍ يرقى إلى أيام المسيح. على أرضه، أنا على ترابٍ مقدَّس. ومن أجمل الأجمل في لبنان أنه فريدٌ في جَمْعِه العظَمَةَ والجمالَ معاً في أَعلى مستواهما. على كل قمَّةٍ تاجٌ من معابد وهياكل، هواؤُه هو الأنقى والأعذبُ والأنعشُ في الدنيا، جَـوُّهُ عابق بالصحة والراحة والهناءة وصفاء الفكر والروح، أَهلُه طيِّبون لُطَفاء، وأَمْنُهُ هو الأسلم من أَيِّ بلدٍ في أوروپا، فكنتُ أقطعُ فيه مشياً مسافاتٍ طويلةً وحدي من دون أيِّ قلقٍ أو خَطَر”.
وسنة 1833 وضع الشاعر الفرنسي لامرتين كتابه “رحلة إلى الشرق” وفيه صفحاتٌ أخّاذةٌ عن لبنان هنا ترجمة مقطع منها: “جميع الصُّوَر الشاعرية المقدسة مَحفورةٌ بأحرفٍ مضيئةٍ على وجه لبنان، وعلى قِمَمِهِ المذَهَّبة ووديانه المعطَّرة. لعل أرضَه هي الأقدمُ في التاريخ، أرضُ شعر وصلاة، ففي كل ناحيةٍ مررتُ بها كدتُ أسمع بين ثناياها أدعيةَ أنبياءٍ متصاعدةً نَحو أَعالي السماء”.
تلك كانت حروفاً من كتُبٍ حَفَرَها في الزمان كبارٌ عن لبنان، أَترُكُها في ذاكرتِكُم لعلَّها تَحفُرُ فيها إيماناً أقوى بأنّ لبناننا الخالد ليسَ وطناً من كيلومتراتٍ مُربَّعةٍ وديموغرافيا مُصَبَّعة، بل هو وطنٌ حُدودُهُ التاريخ، وجغرافياه لوحةٌ إلهيَّةٌ مَنَحَنَاهَا الله كي نَعيشَ ماضيها بعَين الآتي الـمُشِعِّ بالكِبَر، لا بعَين الحاضر الغارق في وُحُول السياسة والسياسيين.