في 172 صفحةً قطعاً كبيراً مربَّعاً، أَصدرَ المؤرِّخ اللبناني الدكتور أنطوان الخوري حرب كتابه “لبنان: جدليّةُ الاسم والكيان” عن “مؤسسة التراث اللبناني”، ضمَّنَه قسمَين كبيرَين: أَوَّلُهُما لِلُبنان الكيان الجغرافي والتسمية (عالَج فيه لبنانَ في مقوّمات وُجودِه الطبيعية، واسمَ لبنان ومدلولاتِ التسمية)، والقسمُ الآخَر لاسم لبنان في النصوص القديمة.
وانطلاقاً من ثلاث مقوِّماتٍ أساسيةٍ لوجود أَيِّ وطن: الأرض والشعب والتراث، افتتح المؤلِّف بَحثه بأنّ “هذه المقوّمات تُهَيِّئُ لنُشوء كيانٍ سياسيٍّ قانونِيٍّ يدعى “الدولة”، تأتي تعبيراً عن إرادةٍ شعبيةٍ وطنيةٍ تُجسّدُ الشعور بالانتماء إلى كيانٍ وطنيٍّ واحدٍ مُوَحَّدٍ، وجامِعٍ مُوَحِّد يدين له الشعب بالولاء الحصري”.
وراح المؤلِّف بعدها، صفحةً بعد صفحةٍ في كتابه المزدان بِوَفرةٍ جميلةٍ من الصوَر الطبيعية والخرائط واللوحات والوثائق، يتابع تكوينَ لبنانَ الجيولوجي منذ الطور الجيولوجي الأول (قبل 600 مليون سنة) حتى الطور الرابع، وتاريخيةَ اسم لبنان عبر العصور منذ اشتقاقه من اللغات الساميّة القديمة، مشتَقّاً من الجذر الثلاثي السامي القديم “ل ب ن” ومعناه “الأبيض”: لبياض ثلوجه رَدْحاً كثيراً من السنة.
يستدلُّ المؤلِّف من ذلك أن “لبنان” تسميةٌ جغرافيةٌ تعبّر عن ظاهرةٍ طبيعيةٍ مرتبطةٍ بطبيعة لبنان الجبلية، وأنه اسمٌ مُمَيَّزٌ بين الأسماء الحالية للبلدان من حيث مدلولُه الجغرافي الثابت، ويشْمُل كلَّ أرضه بسلسِلَتَيه ومنبسطاتِهما. وغيرُ “الجبل الأبيض”، لِلُبنانَ أسماء أخرى مثل “جبل الطُّيُوب” (نسبةً إلى “اللُبان” أو “اللُبنى” وهو اسمُ شجرةٍ عطريةٍ كانت منتشرة في جبال لبنان، ينقشِر عنها صُمغٌ له عطرٌ كالبَخور، كما ذكر العالِم الروماني پلين في القرن الأول للميلاد)، و”الحاكم الجبار” (نسبةً إلى “جبل العظمة والسيادة البارزة”، كما ذكر فيلون الجبيلي في القرن الأول للميلاد)، و”جبلُ الله المقدس” (كما ورَدَ في سفر دانيال من العهد القديم)، وبالفعل: تكاد لا تخلو قمة في جبال لبنان من آثار مذبح أو هيكل فينيقي قديم، وفي قديم النصوص السومرية والمصرية والفينيقية والعبرانية واليونانية ورَدَ ذكْرُ لبنان بأوصاف مُختلفة كـ”مُقام الآلهة”، أو “الأرض الإلهية”، أو “جبَل إيل”.
ولا يورد المؤلّف تفصيلاً إلاّ ويُوَثِّقُه بِمصدره ومرجعه التاريخي القديم أو الوسيط أو الحديث مع ذِكْر الطبعة والصفحة، فيتابعُ اسم لبنان طائراً أعجوبياً عبر العصور، في ملحمة غلغامش، ونصوص إيبلا وأوغاريت، والنصوص الحثية والفرعونية والأشورية والكلدانية والفارسية واليونانية والرومانية والبيزنطية وديونيزياكا ننّوز، وصولاً إلى النصوص العربية كما وَرَدَ في كتابات المؤرّخين العرَب القُدامى كالطَّبري وابن الأثير وابن عساكر وكعب الأحبار والغزّالي وابن جبير والقلقْشَندي وسواهم.
ويَختُم المؤلف كتابَه بذكْر لبنان في الشعر العربي، ومنه قول البحتري:
: “تَلَفَّتُّ من عَليا دمشـقٍ ودُوننا للبنانَ هَضْبٌ كالغمام المعلّقِ”
وقول أبي نواس واصفاً الخمرة : “سلافُ دَنٍّ إذا ما الماء خالطَها فاحت كما فاحَ تفاحٌ بِلُبنانِ”
وقول ابن الخراساني : “وكيف الْتِذاذي ماءَ دجلةَ مُعْرِقاً وأَمـواهُ لبنانٍ أَلَذُّ وأعذَبُ؟”
كتاب أنطوان الخوري حرب “لبنان جدلية الاسم والكيان”، موسوعةٌ صغيرةٌ في حجمها، موسَّعَةٌ في مضمونها، واسعةٌ في مدلولها، يَجدر أن تكون في كلِّ بيتٍ يريدُ أن يعرفَ أيَّ وطنٍ غيرِ عاديٍّ هو وطنُهُ لبنان !