الحلقة 1033: الخلَويّ-حُرمَةُ المكان والمناسبة
الأربعاء أول شباط 2012
في “نيويورك تايمز”، مطلعَ هذا الأُسبوع، خبرٌ لافتٌ عن حادثةٍ شهِدَها نِهايةَ الأسبوع الماضي مسرحُ لينكولن الشهير في مَنهاتِن (نيويورك) إبّان عزْف أوركسترا نيويورك الفيلارمونية السمفونيا التاسعة لغوستاف ماهلر، الشهيرةَ خاتِمتُها بأنها أكثرُ أعمال ماهلر رقّةً وهدوءاً وروحانيةً شفّافة.
فلحظةَ بدأ قائدُ الأوركسترا الأميركي آلان دْجِلبِرْت بِحركة الختام، سمع خلفَه في الصف الأول رنينَ هاتفٍ خَلَويّ. التفتَ غاضباً لكنه أَكملَ القيادة آمِلاً أن تكونَ نِظْرَتُهُ أَفْهَمَتِ الشخصَ المعنيَّ أَنْ يُقفِل جهازه. غير أنه بعد لحظاتٍ عاد فَسَمِعَ الرنينَ الخلَويَّ ذاته من الشخص ذاته، فلم ينظُرْ إليه هذه المرة بل رفَعَ عصاه طالباً من الأوركسترا وقْفَ العزف. وإذا بِمن حول ذاك الشخص المعنيّ يزجُرونه باشمئزازٍ لفِعْلَتِهِ ويطلبون منه مُغادرة المسرح، حتى إذا خرَجَ اندلَعَتِ الصالةُ بتصفيقٍ طالَ حتى رجَعَ دْجِلبِرْت إلى منصَّة القيادة واستعاد الحركة الأخيرةَ من سمفونيا ماهلر التاسعة بِنوطاتِها الخفيضة الرقيقة الحافية، وسْطَ صمْت الجمهور تَمتُّعاً بِرِقّةٍ ودِقَّةٍ أَنْهى بِهما دْجِلبِرْت تلك السمفونيا الجميلة.
أَعرفُ أنّ هذه ليست المرةَ الأُولى أَتَحَدَّث فيها عن رنين الخَلَوِيّ في غير وقته ومكانه. لكنني أعرف أيضاً أنّ الخَلَويّ لم يَعُدْ آلةً بل صار آفةً نتململ منها حين ترِنُّ حيثما أو حينما لا يجوز أن ترنّ، أو تصادرُ صاحبَها لوقتٍ غيرِ قليلٍ وسْط جَمْع يُضطَرُّه أَن يَسْكُتَ لينهي مُخابرته التي غالباً ما يتحدَّث خلالها بصوتٍ مرتفع يُزعج مَن حوله ويُرغمهم على الإنصات القسري.
ولا نزال نعاينُ إزعاجَ هذا الجهاز – والواقع أنه إزعاجُ صاحبه – في أثناء مُحاضرة أو أمسية موسيقية أو شعرية أو أدبية، أو في اجتماعات رسمية أو جادَّة، فيقطَعُ إيقاعَ الجلسة، ويسحبُ صاحبه إلى ناحية يؤخِّر فيها وقت الآخرين أو يزعجهم بانسحابه ليُهاتف، وفي ذلك اختراقُ حُرمة المكان والمناسبة والحاضرين.
أَيضاً وأَيضاً: ليست أوّلَ مرةٍ أنوّه فيها بهذه الظاهرة، لكننا كلَّ مرةٍ نواجهها كأنما الناس لم يكتسبوا بعدُ أنّ للمهاتفة الخَلَوِية آداباً وأخلاقياتٍ وسلوكاً كما لأي ظاهرة اجتماعية أخرى تفترض احترام الآخرين تَكَلُّماً أو انكفاءً أو حُسْنَ تَصَرُّف.
إنّ للخَلَوِيّ قواعدَه السلوكيةَ اتصالاً أو تَلَقِّياً أو إقفالاً، على حامله أن يُراعيها ليحترمَ الغير فيحترمَه الغير ولا يشمئزَّ منه أو ينْفُر، وفي طليعةِ هذا السلوك: التَّحَدُّثُ به خفيضاً وفق الظروف، وتَلَقِّي اتصالاته في أسلوبٍ لا يجعل الآخرين حولَه يتابعون حديثَه أو ينتظرونه دقائقَ مطّاطَةً لا دَخْلَ لهم فيها ولا فائدة، أو إطفاء الجهاز بداهةً وتلقائياً من دون أن يُطْلَبَ ذلك، حين المكانُ يفرضُ إقفالَه لعدم الإزعاج.
التكنولوجيا سهَّلَت لنا الحياةَ في آلة، فلا نَجعلنَّها آفة، كي يظلَّ استهلاكُنا إياها على مستوى استحقاقها لا استحقاقِ اشمئزازِ الآخرين حين يَزعَقُ رنينُها وسْط صمتٍ أو هيبةٍ أو… هُدوءِ استماع.