الحلقة 1031: المسؤول والمساءلة
الأربعاء 18 كانون الثاني 2012
منذ انهار المبنى، والأسئلةُ تتعالى مع صراخ الاستغاثة، والتُّهَمُ تتطاير من الشعب إلى مسؤولٍ مَجهولٍ تتنقَّل هويته وفق مُوَجِّه التهمة، مع كلّ التقدير لاندفاع وحميّة شباب الدفاع المدني والصليب الأحمر وفوج إطفاء بيروت وأجهزة وزارة الصحة.
في هذه الحالات لن ينفعَ الضحايا هَرَعُ المسؤولين مستنكرين متأسّفين ]مع أنّ هذا واجبُهم تجاه الشعب[، ولن يُخفِّفَ من أوجاع المصابين على الأَسِرَّة وَعْدُ وزارة الصحة بدفع فاتورة المستشفى، ولن يُعزّي المفجوعين البحثُ عن تَحديد المسؤوليات.
الكارثةُ وقعَت ولن ينفع السؤال. وما جدوى مساءلة المسؤول: أكان صاحبَ المبنى الذي يعرف هشاشة البناء، أم المهندسَ الذي رخَّص لبناء طابقَين آخَرَين فوق طوابقَ خَسِعَةٍ لا تَحتمل ثقْلاً فوقها، أم التنظيمَ الْمُدُنِيَّ الذي لم يتأكّد في المبنى من شروط السلامة العامة قبل الموافقة، أم جهازَ البلدية الذي لم يُحَقِّق في صلاحيّة البناء قبل منح رخصة البناء ؟
ما جدوى السؤال أمام ركام مبنى، تحتَه ضحايا، خارجَه جرحى، حوله بكاءُ أهلٍ فَقَدوا أحباء، وشعبٌ كامل تابَعَ عمليات الإنقاذ وفي قلبه لعنةُ غضبٍ مَخنوقةٌ على مسؤولين غير مسؤولين وإهمالٍ أَدّى إلى كارثةٍ وليس مَن يُحاسِب مَن، ولَجنةِ تحقيقٍ ستكتُب على الورق تقريراً ليس معروفاً أين ستذهب نتيجتُه وأيةُ إجراءات ستُتَّخَذ بعد صدور التقرير.
أياً يكن سبب الانهيار فالعلاجُ في مكانٍ آخر: في كل مبنى آخر مرّ عليه زمنٌ من السنوات وبات يستلزم علاجاً مسْبقاً قبل أن ينهار. لكلّ كينونةٍ عُمْر: للباطون عُمْر، للحديد في المباني عُمْر، للجسور الحاملة المباني عُمْر، وعلى السلطة المحلية أن تتدارك هذه الأعمار قبل انْهيارها وسَحْق أعمار السُّكَّان الآمنين.
مسؤول نقابِيٌّ أرجع اللوم إلى قانونِ إيْجارٍ نائمٍ سعيداً في أدراج مجلس النواب الذي لم يَبُتَّ به بعد، ويبدو أنه مُؤَاتٍ صاحبَ الملْك والمستأجرَ معاً. وقال إن قانون الإيجار الحالي وضعه المفوّض السامي الفرنسي. إذا صَحَّ هذا القولُ يكون عمْر قانون الإيجار أكثر من ثمانين عاماً، تماماً كما قانون الأحوال الشخصية عندنا يعود إلى سجلاّت نُفوس سنة 1932. فهل هذه هي الدولة الحديثةُ التي تسهر على مواطنيها؟ وهل هؤلاء هم النوّاب المشرِّعون المفترض أنهم يَنظُرُون في القوانين تحت قبة البرلمان؟
بين براعات الاحتيال على القانون عندنا فذلكةٌ وقحةٌ اسمها “التسوية”: يُخالفُ مَن يُخالفُ ثم يَدفع “تسوية” إلى البلدية فيُسَوّى وضعُه وينتهي الأمر من دون أَيِّ تحقيقٍ في صلاحية البناء الذي “سُوِّيَ وضعُه”.
في أنظمة الحروب ظاهرةٌ اسمها “الضَّربة الاستباقية” لتَدَارُكِ مفاجأةٍ أو مُباغتةٍ أو خطَرٍ مرتَقَبٍ أو مُمكن. وعلى الوزارات المختصَّة عندنا أن تقومَ بِهذه “الوقاية الاستباقية” في كلّ قطاعٍ يعود إليها كي ننتقلَ من دولة المزرعة إلى تنظيم الدولة الحازمة.
انْهيارُ المبنى في الأشرفية إنذارٌ كبيرٌ وخطيرٌ معاً: في لبنان آلاف مبانٍ عتيقةٍ يَجب التَّنَبُّهُ إلى وضْعها قبل وقوع الكارثة. والدولة التي لا تستَبِقُ التَّصَدُّع في الأبنية، تكون هي مُتَصَدِّعةً من داخلها. وإذا انهيارُ مبنى يسحقُ عشراتِ سكّانه، فانهيار الدولة المتصدِّعة يسْحَقُ شعباً كاملاً ظَلَّ مغشوشاً بدولتِه حتى دقَّت ساعةُ الحقيقة وانْهارَ بناءُ الدولة على مَن فيه وما فيه.
وحين تنهارُ الدولة لن تعودَ تنفعُ عباراتُ الندم والأسف والأسى لأنّ الموت لن يُفَرِّقَ عندها بين سؤال الضحية وجواب المسؤول.