الحلقة 1025: القُوَّةُ البَنّاءة، والقُوَّةُ الهدّامة
الأربعاء 7 كانون الأوّل 2011
تشهد لندن هذه الأيام في “متحف ڤيكتوريا وأَلْبرت” معرِضاً عنوانُه “قُوَّة الخلْق”، يَجمع نحو 100 قطعةٍ فنيّة وحِرَفِيَّة لِهواةٍ ومُحترفين من جميع أقطار العالَم: قطعٌ بسيطةٌ صاغَها فنّانوها وحِرَفِيُّوها في تأْليفٍ فَنّيّ قماشيّ أو معدنِيّ أو فخاريّ أو خشبِيّ أو حَجَريّ، يُدهشُ من كونِه في صيغته الأُولى غيرَ ذي بال، حتى إذا تناوَلَه فنّان خلاّق أو حِرَفِيٌَّ حاذقٌ، جعل منه قطعةً مشغولةً لافتة.
غايةُ المعرض: الدلالةُ على قوّة الخلْق والتأْليف، والاختراع والإبداع، منذ بساطة المادة إلى جمال تعبيرها، طالعةً من الخيال الفني إلى استخدامها للعرض أو للاستعمال أو للإفادة.
مقولة المعرض: “ما نصنعه بأيدينا يعكس مَن نَحن، ويشير إلى من نريد أن نكون”. ذلك أنْ بالطريقة التي نصنع بها أو نسلك بها أو نفكّر بها أو نُنتج بها أو نتَصرَّف بها، تكون هويتنا الاجتماعية أو الإنسانية أو السياسية.
أَتَوَقَّفُ هنا لِتَعْنيني من المعرِض فكرتُه ومقولتُه: “ما نصنعه بأيدينا يعكس من نَحن، ويشير إلى من نريد أن نكون”.
كيفَ أَقرأُ هذه المقولة في مِجهر الزَّمن اللبناني الراهن؟ آخُذُ أحدَثَ ما في هذا الزمن: فضيحة الكهرباء. وأُقارن:
هناك في لندن مَن يعمل على قُوّة البناء، وعندَنا مَن يعمل على قُوّة الهدم.
هناكَ مَن يُبدع من القطع اليومية حالاتِ إبْهاج، وهنا مَن يَجعل من الحياة اليومية حالاتِ إزعاج.
هناك مَن يتناول حاجةً بسيطةً أَوليّةً في البيوت فيُحوِّلُها إلى فرحٍ دائم، وهنا مَن يتناول حاجةً بسيطةً أَوليةً هي النورُ في البيوت فيُحَوِّلُها إلى هَمٍّ دائم.
هناك قُوَّةُ التعمير بالْفَنّ، وهنا قُوَّةُ التدمير بِـفَنّ.
هناك الإبداعُ بالصفائح، وهنا الابتداعُ بالفضائح.
هناك معرِض، وهنا مَفْرِض:
هناك معرِضٌ جميلٌ مفتوحٌ مَجّاناً لرُوَّاده، وهنا مفرِضٌ ذليلٌ مفتوحٌ لِمواطنيه يَدفعون فاتورةً لاوِيَةً للدولة، وفاتورةً كاوِيَةً لأصحاب المولِّدات، فإذا تَوَقَّف معملُ التغذية توقَّفَ أَصحابُ المولِّدات عن التغذية ساعاتٍ أطول.
هناك فكرةٌ للنور، وهنا أَفكارٌ للعتمة.
ما نصنعُه بأيدينا يعكس مَن نحن؟ وهل ما يَصنعه أَولياءُ الأُمور بأَيديهم عندنا، يَعكس مَن نحن؟ أم هو يعكس مَن هُم؟
في لندن أَيدٍ خَلَقَتْ أَشكالاً غريبةً على إيجابيةٍ إبداعية، وعندنا أيدٍ تخلُقُ أَشكالاً غريبةً على سلبيةٍ مؤذية.
حُشُودٌ تصطفُّ في لندن لتدخُل إلى معرِض “قوّة الخلق”، وشعبٌ كاملٌ عندنا يصطفُّ ليَخرُجَ من عتمةِ انقطاع الكهرباء.
في الصفحة 362 من قاموس “المنجد” أمامي، أَقرأُ: “ساسَ القَومَ: قادَهُم وتَدَبَّر أَمرَهم”. فهل هكذا أَولياءُ أَمرِنا يتَدبَّرون أَمرَنا؟ وإذا “ما نصنعُه يُشير إلى مَن نُريد أَن نكون”، فهل هذا ما يُريدُ لنا أَولياءُ أَمرنا أَن نكون؟
أَصعبُ ما في الحياة أَن يَسُوسَ الناسَ من ينخُرُهم السُّوس، والأجملُ أَن يتناولَ الأشياءَ اليوميةَ البسيطة مَن يُحوِّلُها إلى جمال.
لكنَّ أَسوأَ الأَسوأ، أَن يتولّى قيادةَ الناس مَن يتناول الأشياء اليومية فيُحَوِّلُها صداعاتٍ يومية وهُموماً يومية، ومَن يُحَوِّلُ حياةَ الناس من التعمير إلى التدمير، من قُوَّةٍ بَنّاءة إلى قُوَّةٍ هَدّامة، ومن لَمَعَان الصفيحة إلى أَقصى عِنان الفَضيحة.