في عبقرية الحروف
السبت 27 آب 2010
-708-
منذ فترةٍ يَجري التداوُلُ في رسائل قصيرة على الهاتف الخلوي، وفي رسائل إلكترونية على الإنترنت، باللغة المحكية مكتوبةً بالأحرف اللاتينية في استعمالِ بعضها في غير مكانه تعويضاً عن حرف عربي لا مقابل له في اللاتينية (3 للعين، 7 للحاء، 2 للهمزة).
في مقالٍ أسبق (أزرار 706) عالَجتُ “عبقرية اللغة”، واليوم “عبقرية الحروف”. فـ”الكلمة كرةٌ أرضيةٌ كاملة، حروفُها القارات. وللحروف كما للكلمات تَنَفُّسٌ ومدى. كلُّ حرفٍ زهرةٌ، والكلمة باقة زهر، فلا يحق للكاتب أن يدهس حرفاً أو يهمله” (من كتابي “لُغاتُ اللغة”).
في ما يجري اليوم خطَر داهمٌ على الحرف والكلمة واللغة معاً: الكتابةُ كما اللفظ، فتأخذ الكلمة شَكل نُطْقِها لا شَكل كتابتها ولو كان النُّطق غيرَ كتابتها. هذا يجوز في الشفوي لكنه يخرّب الكتابي وتالياً يُوْدِي إلى تخريب اللغة، خصوصاً لدى جيل جديد لم يمتلك اللغةَ بعد، فيكتسبُها كاتباً إياها بِمَحكيِّها، ويَفقد كتابتها الصحيحة التي هي نتاجُ العقل والنطق والجمال.
هكذا تَرُوج في الفرنسية مثلاً عبارة “j’ve” عوض “je veux”، أو في الإنكليزية عبارة “4 u” عوض “for you” حتى لسوف يجيء يومٌ يفقد فيه الجيلُ الجديدُ استعمال اللغة المكتوبة الصحيحة ويَنْفَسِد بكتابتها خَطَأً كما اعتاد يكتبُها لفظاً ونُطقاً، وهنا اندثارُ لغةٍ عمرُها أجيالٌ مثمرةٌ ناضجةٌ من قواعد تقوم عليها اللغة، يكون خَرَّبَها استخدامُها بالحروف مَحكيةً ملفوظةً في اختصاراتٍ واستعمالاتٍ يُتيحها النطق ولا تتيحها القواعد السليمة.
هذا أمرٌ خَطِرٌ جداً على سلامة اللغة إذا خسرت قواعدها بفوضى الكلام المكتوب كما هو ملفوظ. فكيف يجوز أن نكتب “أَلْبي” عوض “قلبي” (كما في بعض الإعلانات) أو “تمسال” عوض “تمثال”، حتى ليمكن أن يتلقّفها الجيل الجديد فيروح يكتبها هكذا ويستطرد لاحقاً إلى كتابة لغته كما يلفظها، وفي هذا انتحار للمنطق والعقل وسلامة التفكير.
ومن فَقَدَ منطقه في كتابة اللغة، وفقَدَ عقله في استذكار القواعد كي يكتب اللغة السليمة، يكون فَقَدَ سلامة تفكيره في كلّ شيء لا في الكتابة وحسب. فحتى اللغات الأجنبية حين نتكلّمها ونَختصر أو نَختزل أو نَحذف حروفاً منها، عند كتابتها يجب أن نعود إلى الالتزام بقواعدها الأَصلية. لغةُ الشارع والإعلانات غيرُ لغة الكتابة.
“أُكتُبْ كما تَلْفُظ”، معادلةٌ سيئة وقاعدةٌ خطرة لا على اللغة فقط بل على العقل والمنطق.
ومن يَخرّب في كتابة اللغة يُخرّب في العقل والمنطق.
ولا ضرورةَ لشرح ما يَحدث عند خرابِهِما.