في عبقرية اللغة
السبت 13 آب 2011
-706-
فَرِغَت الناقدةُ الفرنسيةُ من قراءة روايةٍ مترجَمة عن العربية لصديقتها الكاتبة اللبنانية، فاتَّصلت بها معلِّقة أنْ لو انها كانت مسؤولة عن ترجمتها لَحَذَفَت من النص حيث تفوح عبارات العواطف المتقدِّمة والرومانسية الكثيرة، لأن “العصر تَغيَّر، وهذا النوع من الكتابة لم يعُد يَهُمُّ اليوم قارئ الأدب الحديث”.
لن أناقش رأْي هذه الناقدة. قد تكون ذاتية في نقدها، بين كتاباتٍ ميكانيكية أو إلكترونية من “موضة العصر”، أو قد تكون موضوعيةً في النظر إلى نصٍّ يأرج في لغته الأصلية عاطفةً نابضة تَهزُّ قارئها العربي برومانسيات لم “تنقرض” بعدُ من شرقنا القائم على العاطفة والحنين والحنان.
ومع أنّ في الأدب الفرنسي روائعَ خالدةً غنيةً بالعاطفة: وصفاً وحواراتٍ ومواقف، أفهم أن يكون في النصوص “الحديثة” ما يتماشى و”موضة العصر” من اختزال واختصار بلوغاً سريعاً إلى الحبكة، لا تطريزاً متمهِّلاً للحبكة في أسلوبٍ غنائي هادل على أجمل أبيات الشعر أو أحلى مقاطع الوصف النثري.
يأخُذنا هذا الأمر إلى “عبقرية اللغة”: مفتاح نقْل النص، شِعريِّه أو نَثْريِّه، من لغةٍ إلى لغة. فالنقل الحرفي يُخرج النص مراتٍ سخيفاً، والنقل الافتراضي يُخرجُهُ أبعدَ من الأصل أو دونه. وهنا جدارة المترجم: لا أن “يُترجم” بل أن “يَنقل” في لغته سياقَ النص الأصلي. وهذه موهبة لا تعطى لكل مترجم. فكيف نترجم مثلاً “ألوان” قصيدة رِمبو “حروف العلة” (Les voyelles) أو أَبيات هوغو في رثاء ابنته ليوپولدين وفيها تعابيرُ لا يمكن بنقلها الإبقاءُ على نبضها الفرنسي؟
إذاً: لكل لغةٍ “عبقريةٌ” خاصة “تقاربها” في الترجمة ولا “تَنقلها” بكامل بهائها الأصلي. وما يقال في النقل إلى العربية يقال أيضاً في النقل من العربية: كيف يُمكن ترجمة التركيب العربي الذي قد لا يضارع جمالَه تركيبٌ في لغة أخرى، هو الطالع من “عبقرية” للعربية مُميَّزة، خصوصاً حين يكونُ فارسَها ناثرٌ مبدعٌ أو شاعرٌ فَـذٌّ يعنى بالـ”كيف” عنايتَه بالـ”ماذا”، حتى إذا تناولها مترجمٌ، نَقَلَ الـ”ماذا”، بأمانة عالية ربما، إنما أنّى له أن ينقل التركيب العبقري؟
تلك الناقدة الفرنسية التي “استكثرَت” الغنائية في نص الروائية اللبنانية، لو أعطي لها أن تعرف نسيج اللغة الأُمّ للسرد الروائي في النص المترجَم أمامها، ربما أَشاحت عن رأْيها ذاك، لأنّ ما هو “حديث” في الأدب، لا يُمكن أن يكون طِرْحاً، بل هو مولودٌ من أعراق لغةٍ مبدعةٍ لها خصائصُ عاليةٌ في عبقرية الـ”كيف” والـ”ماذا”.