الشتيمةُ السياسية: إفلاسٌ أم مِسْمَاس؟
السبت 25 حزيران 2011
– 699 –
حين تتصاعَدُ الشتائم السياسية على المنابر وفي الصحافة والإعلام، لا تُشكّل أحاديثَ يتداوُلها الناس وحسْب، بل تَتَشَكَّلُ مادّةً سوسيولوجيةً غنيةً لِمؤرّخين يُحلّلون الشاتم من شتيمته التي تكشف طباعه وشخصيته وضعف أعصابه واضطراب حضوره وانفعالاته السريعة التي توقِعُهُ في التلفُّظ بشتيمةٍ تنقلب عليه، أو يُضطَرُّ لاحقاً إلى التراجع عنها، أو النَّدَم عليها.
هي هذه أُطروحةُ المؤرّخ الفرنسي توماس بُوشّيه في كتابه الأخير “أسماء العصافير-الشتيمة في السياسة منذ عودة الملكية مع لويس الثامن عشر إلى اليوم”. وهو اختصاصيٌّ في العنف السياسي والاجتماعي، ويُمَيِّزُ بين شتيمة انفعالية عابرةٍ لا تُقيم، وشتيمة فضائحية تؤْذي المشتوم وقد تُوْدي به إلى مهالك قاتلة.
الشتيمة السياسية تؤرخ للفترة التي تقال فيها (تُهمة “الأَلْمَنَة” أو “الڤيشية” أيام الاحتلال الألماني في فرنسا لِمَن كانوا معتَبَرين خائني فرنساهُم ومستزلِمين للحُكْم الأَلماني المجاور) فتَسِم الشتيمةُ الفترة بسياسيين كانوا كباراً في زمانهم فتقلّصوا مع الزمن لا قيمة لهم ولا ذكْر، لأن شتائمهم طلعَت من حقدٍ سياسي أو كيديةٍ سياسية تكون مُدَوّيةٍ في وقتها إنما تعود بعدذاك لا قيمة لها، من هنا تحليلُ بُوشِّيه أنّ الشتيمة السياسية دليلُ إفلاس أو دليلُ مِسْماس (اختلاط واهتزاز في شخصيّة صاحبها).
ويرى الكاتب أن الشتيمة الوقحة تظل رخيصةً مهما فعلَتْ في المتلقّين، بينما تلك النابعةُ من سُخريةٍ عميقةٍ تبقى وتُبقي معها قائلها. من هذه: أجوبةُ كليمانصو “النمر الشرس”، أو قذاعات فيكتور هوغو ضدّ ناپوليون الثالث.
ومما يستنتجه المؤلّف في أطروحته السوسيوتاريخية: الشاتم يعرّي نفسيّته في الشتيمة الرخيصة فتصدر هذه عكس ما يعرف عنه جمهورُه قبل شتائمه الانفعالية الموتورة أو الاتهامات المغلوطة أو المدسوسة، وتفضح شتيمتُه مستواه الفكري والسياسي والأخلاقي الذي قد يؤثِّر حتى على جمهور أزلامه ومَحاسيبه فيكشفون زيفه ومُخَطّطاته التي كانت مُخبّأَةً عليهم حتى أتت شتائمه المفْتَرِيَة لتُظْهِرَه أَنانيّاً حَقُوداً يريد بشتيمته أذيّة خصمه، وهذا ما لا يقبله جمهور كان قبلذاك مؤمناً به لِقِيَمٍ كان يراها فيه، أو لرؤية سياسية كان يظنّها في فكره السياسي.
لذا ينبّه توماس بوشّيه إلى الذّهاب أبعد من الشتيمة السياسية نفسها، ويدعو إلى تحليل ما وراء الشتيمة من نوايا لم تكن مكشوفةً في خطاب مُطْلقها، ولم يكن واضحاً ما يُضْمِرُ من فعلٍ أو حَدَثٍ كان حتئذٍ مُغَلّفاً بأضاليله، حتى جاءت شتيمته لتفضح عُرْيَ نواياه الخبيثة.