“لبنان بلدٌ ضَيِّقُ المساحة، مَديدُ التاريخ، بَعيدُه: مديدٌ حتى لَيغيبَ فجرُه الأول في ليل الزمان، وبعيدٌ حتى لَتتعبَ ذاكرتُه في عبورها تعاقُبَ العصور. وفي أرض لبنان رواسبُ عمرُها آلافُ السنين، ترسم مسيرته عبر التاريخ، وتشكِّل لعلماء الآثار مادةً يستعيدون بها مَحطاتٍ أكيدةً من تاريخه. رسالةُ هذا الكتاب أن يضيءَ بالصُّوَر والوثائق على تلك المحطات”.
بهذه الكلمات الوجيزة، وضعَتْ باحثةُ الآثار نينا جيدجيان (الأميركيةُ المولد الأرمنيةُ الأصل) فاتحةً نبيلةً لكتابها القيّم “تاريخُ لبنان في صُوَر آثاره”، موثِّقةً إياه بصُوَرٍ فوتوغرافية وخرائطَ تُثبت بالوقائع إشعاع لبنان على جبين التاريخ. وهي، منذ زارت لبنان يوماً، سَحَرَها تاريخه فبقيَتْ فيه، وجعلَت تعـملُ على نبش كنوزه المخبَّأَة في نبضات آثاره الخالدة، وعلى إطلاقِها بشغَف الاكتشاف، وجِدّيّة العمل العلْميّ، وجَلَد البحث الدؤوب الجَلود.
كتابُها (في لغتَين: الانكليزيّة The story of Lebanon in Pictures والفرنسيّة L’Histoire du Liban à travers les images) من 340 صفحة حجماً كبيراً، نشَرَتْه المكتبة الشرقية، وهو في 12 فصلاً، بينها 9 خرائط علمية دقيقة لفينيقيا ولبنان الحالي وبيبلوس وصور وصيدا وبيروت وبعلبك وعنجر وطرابلس، ومعها صُوَرٌ كثيرةٌ لقطعٍ أثرية معظمُها موجودٌ في المتحف الوطني.
بعد فصلٍ أوّلَ عن “أرض لبنان التاريخية”، وفيها مسيرةُ الإنسان على أرضنا منذ أوّل العصور البرونزية فالحجرية، وبعد فصلٍ ثانٍ عن شعب لبنان القديم بكَهَنَته وملوكه وآلِهَته وأَساطيره، يَمُرُّ الكتاب على مدننا القديمة، بدءاً من بيبلوس وتاريخها والحضارات التي تعاقبت عليها وناووس أحيرام وعليه الأبجدية الفينيقية التي منها تفرَّعَت سائر الأبجديات، وانتقالاً إلى صُوْر وأمجادها وملوكها والأرجوان الذي وُجِد على شاطئها، وقوس النصر، وملعب سباق الخيل الفريد في تصميمه وَهَيْبَتِه، وصولاً إلى صيدا منذ ظهورها في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ومعبد أشمون فيها وناووس الاسكندر، وخان الافرنج، وقلعة صيدا وتاريخها المشرق في الصمود. وينتقل الكتاب إلى بيروت، الحبيبة بيروت، ودَورها الحقوقي في الحضارة، فإلى بعلبك وهياكلها التي لا تزال حتى اليوم تُحيِّر العقل لاكتشاف سِرّ بنائها الأُسطوري، فإلى فقرا ومعبدها وجسر الحجر، فإلى عنجر وقلعتها الأموية وأبوابها الأربعة، فإلى طرابلس ومساجدها ومآذنها وقِبابها وحَمّاماتها وقلعتها المهيبة، وصولاً إلى بيت الدين وقصره وأصداء أيامه التاريخية العريقة. وفي الفصل الأخير “لبنان أرض الحضارة واللقاء”: اعترافُ هيرودوت أبي التاريخ بأنّ الأبجدية اكتشافٌ فينيقيّ (ودليله تسمية الإغريق “فينيكيا غراماتا” أي الحروف الفينيقية)، والإشارةُ إلى أولِ مطبعة في الشرق لدى دير مار قزحيا في وادي قاديشا، وإلى أولِ مرآةٍ في التاريخ وُجِدَت على ناووس الملك إيـبْشيمُوآبي في بيبلوس من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، إلى أَجاجين فخّار كان اللبنانيون أوّلَ مَن أطلعوها مِن تُربة أرضهم الخيّرة في القرن الثالث قبل الميلاد.
كتاب نينا جيدجيان “تاريخ لبنان في صُوَر آثاره”، كَنْزٌ نادر عن كُنوز لبنان النادرة، حبَّذا لو يكون لدى كلّ بيت في لبنان وعالم الانتشار اللبناني، شهادةً على هذا الوطن الأُعجوبيّ الذي قال فيه المؤرِّخ الفرنسي غبريال هانوتو:
“إن لم يكُن لبنان أعلى جبلٍ في الجغرافيا، فهو يقيناً من أعلى قِمَم التاريخ”.