بيغماليون… شاعراً
السبت 2 نيسان 2011
– 689 –
في الأُسطورة:
يَئِسَ پيغماليون في مدينته من إيجاد امرأةٍ نقيّة صادقة يُحبُّها.
قرّر، وهو النحَّات، أن يبقى عازباً طَوال حياته،
وأن “يَخلُق” امرأةً له، له وحده، يُحبّها، يُخْلِص لها ويكون آمناً أنها تُخْلِص له.
جعلَ ينحت بالمرمر تمثالاً لامرأةٍ جميلةٍ، عند انتهائه من نَحتها أَشرقَت عليه أَجمل من أَيّ امرأة عرفَها.
ومن شدّة اتّخاذه بِجمال “امرأته” المنحوتة،
تَوَلَّه بها حتى العبادة،
يكاد لا يصدّق أن منحوتَتَه خرجَت كاملةً بهذا الجمال، طيِّعة بين يديه، لا خيبةَ يتوجَّس منها ولا مفاجأةَ تَصْدمه.
وعاش معها في مُحترفه حياةَ “حُبّ افتراضي”،
يُخاطبها كلّ يوم،
يفتَتنُ بعُريها،
يُغدق عليها أجمل الملابس،
يزيِّن جيدَها بعقودٍ من الزّهر وأناملَها بِخواتم أنيقة.
غير أنه، بعد فترة – مُتعَباً من هذا “الحبّ الافتراضي” ومن كونه يعشق مَخلوقةً بلا حياة -، تَمنّى لو تكون لها روح.
قصَدَ معبد إلهة الحب والجمال عشتروت يوم عيدِها الذي فيه ترتفع إليها “الطلبات الصادقة” فتستجيب، وخاطبها:
– “إن كنتِ تستجيبين للصادقين في يوم عيدك هَبيني امرأةً حقيقيةً بِجمال التي نَحَتُّها”.
وعاد إلى محترفه يعانق منحوتته كعادته، ففوجئ بأنها تتحرّك، تتنفَّس، تعانقه، وتقول له:
– “أنا غالاتيا، حَبيبتُك التي طلبْتَها من عشتروت فاستجابَت ومَنَحَتْني الحياة”.
وهكذا انتقل پيغماليون من وَلَهِه بالمرمر الأجمل إلى وَلَهِه بالمرأة الأجمل وتزوَّجها.
ويقال (عن أوڤيد في الكتاب العاشر من قصيدته “التحوُّلات”) إنّ عشتروت نفسها حضَرَت العرس.
في الشعر:
يولدُ الشِّعر في الشاعر ويولَدُ معه تَوقٌ إلى الحب يعرف، كي يَبلُغَه، علاقاتٍ عدّة. أُولى، ثانية، وربما أكثر.
يقع في الخيبة.
يَلجأُ إلى الحلّ “الپيغماليونيّ”:
“ينحَتُ” امرأتـه كما يَتخيَّلُها،
كما يتمنّاها،
جميلةً كما يشتهيها،
صادقةً كما يشتاقُها،
كاملةَ الأَوصاف كما يَليق بِها أن يَتَعَبَّدَ لَها وتكونَ على مستوى عبادته.
ويَروحُ يَكتب لها ويَكتب،
شعراً كثيراً يكتُب،
ولَهاً وفيراً،
غَزَلاً يُعوّض به عن افتراضيّته إياها،
قصائدَ ينفح فيها روحَه حتى ليخيَّل إلى قارئه أنها امرأة موجودةٌ فعلاً،
“يخترع” لها ومنها وعنها أُطراً تُزيِّنُها في ذهْن المتلقّي امرأةً “نابضة”.
يتَّخذ من افتراضياته صورةً لدى الناس أنه “شاعر هذه المرأة” و”شاعر الحب” و”شاعر الغزَل”.
ويتساءل المقرَّبون منه عمّن قد تكون هذه “المحظية” في شعره وحياته:
هذه، يقولون، أو تلك.
تتكاثر الأسئلة.
تتناسل الشائعات.
وهو يواجهها جميعها ببسمةٍ حزينة في سرّه
لأنه، في عُمق قلبه، يتمنى لو تكون “امرأته” موجودةً فعلاً كما تَظهر في قصائده،
وكما أضاف منه في شعره منمنماتٍ أُسلوبية أو مضمونية،
زادها على بضعٍ من قصة عاشها هنا، أو علاقة عرفها هناك، مع امرأة أو أكثر،
لم تكتمل فرحته بها كما يشتهي،
فأَكملها منه شعراً،
مستعيناً بإزميله الشاعر يَنحت امرأةً له أجملَ من حقيقية وأصدق،
يَخلقها من مادة طيِّعةٍ يصوغ بها “غالاتيا”هُ حتّى يَتَوَلَّه بها وتكون ابنةَ أحلامه التي هي في الواقع أوهامُه لا أحلامه.
ويمضي باسماً في حياته العامة بين مَن وما حوله،
لكنه في حياته الخاصــة حَزينٌ بين ذاته وذاته،
مدركٌ أنه ما زال في “الافتراضي” من شِعر الغزَل، ولم يبلُغ، بعدُ، نعمةَ “الحقيقي” من شعر الحب.
ولأن الشاعر ابنُ الحياة البكر،
ابنُ الطبيعة المخْلص،
يَجثو إلى الحياة في عيد الحياة،
ضارعاً إليها أن تُنقذَه من أوهامه
وتَهبَه نعمة امرأة حقيقيةٍ
معها يعرف الحبّ الحقيقيّ
ويكتب لها شعر الحبّ الحقيقي لا شعر الغزل الافتراضي إلى امرأة نَحتَها هو بقلَمه.
قد يَحْدُثُ أن يتعاطف الخالق مع المخلوق،
أن تستجيب الحياةُ لتَضَرُّع الشاعر
فتمْنَحَه نعمة أن يعرف المرأة الحقيقية.
في خريف عُمره قد تَمنحُه إياها.
في الصيف الهندي.
وما هَمّ.
تُعيدُه بِحُبّها إلى “ربيع” الصيف الهندي.
عندئذٍ يكسر قلمَه.
يُشفى من أوهامه.
يُحطّم منحوتاته الافتراضية.
يتنكّر لِجميع ما كان كتبَ من شِعر الغزَل.
يَدخُل في شِعر الحب.
الحبّ الحقيقي لامرأةٍ حقيقيةٍ
ينتقل معها وبِها من جسَد المرمر والعاج،
إلى جسَد النعمة التي يتزوّجُها حتى آخر العُمر
ولو لم يَعِشْ معَها تَحت سقْف واحد.