688: باريس “ربيعُ الشعراء”

پـاريس “ربيعُ الشعراء”
السبت 19 آذار 2011
– 688 –

في الكلمة الافتتاحية التي كتبَتْها جولييت بينوش (مديرة دورة هذا العام من “ربيع الشعراء”) جاء: “الشعر عندي أكثرُ الفنون قداسةً. إنه تعويذة سحرية لطبيعة الإنسان، وموسيقى داخلية متحررة من كل دين، تتجلّى فيها الكلمة بأصفى نقائها”.
ليس عادياً أن تَتَمَهْرَجَ پاريس، وهي مَن هي بين العواصم في إشعاع الفنون، طوال ثلاثة أَسابيع كاملة احتفاءً بالشعر.
ذلك أنها هذه الأيام (من الاثنين 7 آذار إلى بعد غدٍ: الإثنين 21 آذار) في عرسِ ما تسمّيه “ربيع الشعراء”.
كلُّها؟ نعم: كلُّها.
ولا على المنابر أو في قاعات المحاضرات،
بل في الشوارع والساحات والحدائق العامة والمستشفيات والمسارح وبعض المحالّ التجارية الكبرى:
كيفما دار في پاريس سائحٌ أو زائرٌ أو مواطنٌ، يطالعه الشعر،
لا من إذاعة أو تلفزيون أو منبرٍ يلقي شاعر عليه قصائده،
بل من 400 ممثل مسرحي وممثلة مسرحية يتجوَّلون في تلك الأماكن يُلقون من الشعر أجملَه على مسامع الجميع.
إدارة المهرجان (الثالث عشر هذا العام) أعطت هويّتَه هذه المرَّة لـ”الْمَشاهد اللامتناهية” (Infinis paysages)،
وشعارُه: “2011: فلْنكتشِف شعر ما وراء البحار”،
تخصيصاً لشعراء ثلاثة مُحيطات: جُزُر الكاراييب والمحيط الهندي والمحيط الهادئ.
وفي المهرجان أيضاً:
“مباراة أندريه شديد للقصيدة المغنّاة”، في دورتها الثالثة هذا العام والأُولى بعد غياب الشاعرة، وموضوعُها: وضْعُ أغنية مستوحاة من قصيدة “أَبعدُ منّا” للشاعر الفرنسي المعاصر أندريه ڤلتير.
وأحفاد الشاعرة: ماتيو، آنا، وجوزف شديد يشاركون في أغنياتٍ وضعوا ألحانها لقصائد من جدّتهم أندريه.
كلُّ پاريس هذه الأيام لها فسحةٌ واحدة “المكانُ للشعر”.
المكتباتُ أفرغت واجهاتها من الكتب الأُخرى وملأَتْها بكُتُب الشعر، وخصوصاً الكتُب الجديدة حول “الْمَشاهد اللامتناهية”، أبرزُها أنطولوجيا “وراء البحار: ثلاثة مُحيطات من الشِعر”، و”في سفينة الشعراء” (عمل جماعي لدى منشورات غاليمار)، و”على أطراف الأرض الخصيبة” للباحث جاك لاكاريير (لدى منشورات “سيغرز”).
حتى المستشفيات تستقبل “قارئي الشعر” في غُرَف المرضى وعند هامات أَسِرَّتِهم البيضاء، يقرأُون لهم قصائد في إلقاءٍ جميل يخفف من وطأة الغرفة المكتظّة بالزوّار والأدوية والممرّضات والمعدّات الطبية.
حتى مَحطّات المترو تحفل بـ”قارئي الشعر” يَتْلون القصائد لِمُستقلّي القطارات أو للخارجين منها في المحطة.
حتى المدارس يدخلُها الشعر في مباريات بين تلامذتها لاختيار قصيدةٍ من أحد شعراء “ما وراء البحار” وحِفْظِها وإلقائِها أو التعليقِ عليها، مع التركيز على شعر الزنوجية الأفريقية، وخصوصاً قصائد إيميه سيزير، شاعر جزيرة المارتينيك (شرقي البحر الكاراييبِي)، وعلى تشجيع الأهل لِمُساعدة أولادهم في البيت على اختيار القصيدة، أو في تدريبهم على إلقائها، أو في البحث عن سيرة سيزير ومؤلفاته لكتابة موجز عنها للمباراة. وبين “قارئي الشعر” مَن يُنشد قصائد أخذت طريقها إلى التلحين أو أصبحت من الأغنيات المعروفة.
وتحرّكَت المواقع الإلكترونية في تقديم صفحات كثيرة من شعراء “ما وراء البحار” تسهيلاً لتلامذة المدارس في الاطّلاع عليها، وتَحميلها عن الشاشة إلى دفاترهم للاشتغال عليها والمشاركة في مباراة تضُمّ مئات المدارس في كل پاريس ما يرفع العدد إلى آلاف التلامذة المشاركين في هذه التظاهرة الشعرية التي تجعل پاريس كلّها تتحرّك على اسم الشعر، وتُحَفِّز سكانَها كباراً وتلامذةً وطلاباً على اسم الشعر، وتَجعل مواطنيها يعيشون أياماً في عالم الشعر.
في الواقع الحي:
هذا هو الشِعر، عالَمُهُ وأعلامُه ومعالِمُه، في أزهى نضارته يطلقها مهرجانٌ كبير تُحييه عاصمةٌ كبيرة أعطت العالَم شعراء فرنسيين كباراً أرّخوا مَجد فرنسا الأمس واليوم وكلّ يوم.
وإذا دورةُ هذا العام من “ربيع الشعراء” اتّخذَت “الْمَشاهد اللامتناهية” موضوعاً لها، فالشِعر في ذاته مَشهد لامُتَناهٍ في حياة الإنسان، يُضفي على حياته نسيماً لذيذاً من ذاك الجمال الساحر الذي قال عنه دوستويفسكي إنه “سيخلّص العالم”.
إنّ بلاداً تُخصِّص في عاصمتها ثلاثة أسابيع كاملة لِمهرجانٍ راقٍ ثقافيّ على اسم الشعر، هي البلاد التي تعرف أن شَمس الشعر التي تشرق عليها تَجعل نهارَها نوراً حياً لا غياب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*