الاحتراق حتى الحياة
السبت 29 كانون الثاني 2011
– 681 –
حازمٌ أَمرُ الديانات السماوية في تحريم الانتحار أياً يكن شكله أو مسبِّباته والدوافع.
فالانتحار مُحرَّمٌ، ولو هو فعلٌ شخصيٌّ ينفّذه فردٌ بجسده.
وفي الديانات أنّ مصير الإنسان يقرِّره الله، وتالياً فالانتحار قطيعةٌ إرادية بين الإنسان ومشيئة الله، حتى لو كان بادرة تضحية أو افتداء.
ثمة إماتات ليست دائماً مدفوعة باحتجاجٍ أو يأْس، بل قد تكون نوعاً من تقشُّف الجسد وتعذيبه الذاتي حتى الموت، كما وصَلَنا من سِيَر قديسين كانوا يَجِدُون الخلاص إلى الله في قهر أجسادهم بأنواع مختلفة من التعذيب حتى الموت.
وفيما المسيحية تعتبر الانتحار خطيئة قصوى (إلاّ إذا اقترفه مَجنون أو ضحيةُ يأْس مفرط)، حرَّم الإسلام الانتحار على أنه دليل كفرٍ يُخالف مشيئة الله، وجاء في حديث شريف أن الله يَحرُم المنتحِر من دخول الجنة.
حتى البوذية، التي تَدْرُجُ فيها ظاهرة الانتحار حرقاً، تُحرِّم هذه الفِعْلَة إلا حين يأتيها رهبانٌ في حالات معيّنة لها تبريرات. من هنا اعتبار إقدام رهبان بوذيين (1963) على إحراق أجسادهم حتى الموت احتجاجاً على النظام الڤيتنامي، نوعاً من الإماتة أكثر مما هو انتحار.
وقد يتمّ ذلك جماعياً:
كما إحراقُ أهالي صيدا أجسادهم حتى الموت رفضاً لتسليم مدينتهم إلى الاسكندر الذي حاصرها طويلاً ولم يتمكَّن من دخولها،
أو كما إحراق سكان قرى كاملة أجسادهم عند انشقاق الكنيسة الروسية، في ظاهرة جماعية أَسموها “معمودية النار”،
أو كما بادر رهبان يسوعيون (مطلع القرن السابع عشر) إلى إحراق أنحاء من أجسادهم تقرُّباً من آلام المسيح.
اليائس محمد بو عزيزي، لحظةَ أشعل عود الكبريت وأَضرمه في جسده (17/12/2010) احتجاجاً على فظاظة رجال الأمن في تونس العاصمة بحرمانه من عربة الخُضَر التي كان يعتاش منها، فاحترق حتى الموت، لم يكن في باله هذا الأمر، ولا أنّ هذا الفعل ليس جديداً على تونس التي تتذكّر أنّ إليسار في قرطاجة كانت أول من أسّس لهذا الشكل من الموت، حين اعتلت المحرقة وأمرت جنودها بإضرام النار في جسدها حتى الموت، كي تبقى وفيَّة لزوجها زيكاربعل فلا تخضع لسلطة ياپون الذي أرادَ يُرغمُها على الزواج منه فماتت هي وأنقذت مدينتَها قرطاجة، وشعبَها الذي سافر معها من شط صُوْر.
وإذا إليسار سجّلت بطولة لإنقاذ مدينتها، فهل انتحار بوعزيزي بطولةٌ أنقذت بلاده؟
وهل ما حصل بعد انتحاره ما كان ليحصل لو لم ينتحر؟
وهل موتُه أعطى حياةً لأسرته الفقيرة، وشعبه الغاضب، وبلاده التي دخلت نفقاً من الفوضى؟
وهل دائماً شرارةُ الانتحار حرقاً تُشعل ناراً في جسدٍ فرد فتَشتعل منه براكين يصعب إطفاؤُها حين حِمَمُها ثورةُ الناس الجياع أو المقهورين أو المظلومين بِـهَراوات العسكر؟
لا شجاعة في الانتحار يأْساً وانهياراً، ولا بطولة فيه أياً تكن نتائجه وتردُّداته. فللاحتجاج على قضايا ذاتية أو جماعية أو اجتماعية، وسائل ديمقراطية عدّة تُوصِل إلى غاياتها القصوى، ولو بعد حين، فتُنقذ الأفراد والجماعات.
والشجاعة هنا لا تكون في الإقدام على الانتحار بل في الإقدام على مواصلة النضال من أجل تحقيق الأهداف وبلوغ القضايا.
وليس غاندي سوى نموذج بين سواه من الحالات المضيئة التي قهَرَت العنف باللعنف.
انطلاقاً من هذا المفهوم، يبقى إحراقُ الحياة حتى الموت عملاً فردياً لا يوصل دائماً إلى حياة السوى، لأن الشجاعة الحقيقية هي إشعالُ النار في مسبّبات القضية حتى تحترق جذوعها والجذور.
ومن الأرض المحروقة تعود عشبة الحياة فتطلع بين رماد الحريق، لأن الشعوب المقهورة لا تُنقِذُها شرارةٌ تندلع في جسد ضئيل، بل ينقذها عملٌ جماعي يبدأُ من وعيٍ فرديٍّ يتنامى حتى الجماعيّ ويتّسع مع الوقت، مهما طال الوقت، حتى يطالَ حريقُه الأغصانَ الشريرة ثم الجذوعَ فالجذور، وتيبَسُ عندها شجرةُ الشَّر فتحترق حطباً يهوي على الأرض الخصيبة.
وهذا هو الاحتراقُ حتى الحياة.