669: في رحاب الوحدة (1/2)

في رحاب الوحدة (1/2)
السبت 30 تشرين الأول 2010
– 669 –

من المفارقات اللافتة في الأغنية العربية خُلوُّها من مواضيع اجتماعية/ثقافية تَمَسّ دواخل الإنسان في كينونته السوسيولوجية. من هذه المواضيع: الوحدة، فيما تزخر بها الأغنية الأجنبية (الفرنسية تحديداً) فتعالجها لا من موقع الأسى والتشكّي بل بتجسيدها كائناً رفيقاً أو صديقاً، أو حُضوراً تنزع الحاجة إليه. ولاقت تلك الأغنيات رواجاً واسعاً لأنها تتواصل مع شعور الفرد هناك بالوحدة في السياق نفسه.
فمن أزناڤور “أثرتُ ضجيجاً كي أقنّع وحدتي… وأحلُم بيومِ تأتين تملإين فيه بحضورك وحدتي”، ومن ليو فيريه أن “الوحدة هي الانغماس في الإحساس بالوقت”، ومن باربَرَة أن “الوحدة سميرةُ ليالِيَّ البيضاء، تتبعني خطوةً خطوة، تنتظرني عند بابي وتَدخُل البيت معي”، ومن جورج موستاكي أن “الوحدة أمينةٌ لي كظِلّي، تسير معي حيثما أسير، فأنا لستُ أبداً وحدي طالما وحدتي معي”.
الوحدة هنا، إذاً، ليست الانعزال فقط. إنها إنقاذٌ أحياناً، وأحياناً تَحَرُّر. وهي، في معنىً ما، حرية. الانعتاق من قيود الآخرين، وأغلال المجتمع، وجلاّدي العيون الجارحة والألسن الخبيثة. تصبح الوحدة ملجأ الانفتاح الى عالم مغلق على الآخرين مفتوح على الذات.
ومن الأغنية الى الفكر. نادراً ما عالج الفكر العربي موضوع الوحدة في كينونتها الأونتولوجية، بينما عالجها في الغرب مفكّرون رأوا فيها نهج حياة: “من لا يعرف كيف يملأ وحدته، لن يعرف أن يُفرِغ ذاته وحيداً بين الجمع” (بودلير). وقد تكون الوحدة اتجاهاً تربوياً ثقافياً الى اعتناق هذا النهج إذ “من أسوإ ما لدينا أنْ ليس من يعلّم الوحدة، أو يوصل إليها، أو يوجّه نحوها” (نيتشه). وقد تكون خلاصاً من السوى الْمُرهق الى الانفراد الْمُحْيي “بعد أن يُقيم الإنسان سنواتٍ علاقاتٍ مع الآخرين، يشعر بالحاجة الى الابتعاد عنهم. وإذا كان عقلاً راجحاً قوياً، يختار الوحدة”.
وربما كان الجنوح الى الوحدة لدوافع اقتصادية (عدم القدرة على الاستمرار في احتمال أعباء تتزايد)، أو لدوافع عائلية (خروج الأبناء من البيت الوالدي وانفرادهم الى العيش وحدهم مستقلّين)، أو لدوافع تعبيرية (الوحدة في التصرف والسلوك والقرار من دون قيد الأهل أو قيد المجتمع أو قيد الـ”تابو”).
قد لا تكون الوحدة، بالضرورة، هي الانفصال عن الآخر بمعنى الانفراد والعيش في العزلة، بل قد تكون موقفاً حياتياً كبيراً “الوحدة مفيدة لذوي النفوس الكبيرة، ومسيئة لذوي النفوس الصغيرة. إنها تهدم العقول التي لا تستنير بالوحدة وتُنير” (ڤيكتور هوغو). وقد تكون وحدة في المعنى العشقي أو الإنساني أو المجتمعي حين “شخصٌ واحدٌ ينقصُك، فكل مَن حولَك فراغ” (لامرتين)، وهو ما شعر به هنري دو مونترلان حين كتب “فليَحيَ مَن يتركني وحدي، لأنه يعيدني الى ذاتي” ولعل هذا الشعور هو الذي أدى به الى الانتحار. وقد يكون هذا المنحى نفسه في النزوع الى الانفراد، ما جعل پول موران يكتب “سعادة العيش مع شخص آخر، مؤذية أكثر من تعاسة العيش في الوحدة، وكم من وحدة تكون أكثر هناءة من إزعاجات الآخرين بزياراتهم وانتهاكهم الحرية الشخصية والوقت الخاص”.
وقد تُوصل الوحدة الى مأساة حادة، كما صدر مؤخراً في دراسة دلّت على أربعة ملايين شخص في فرنسا، من فئات عمرية مختلفة، يعانون من الوحدة والانفراد والوحشة، مخالفين على أرض الواقع ما قاله جيلبير بيكو خيالياً في أغنيته بأن “الوحدة غير موجودة”.
هذه الظاهرة التي يعالجها الغرب من زاويتها السوسيولوجية عبر مفكريه أو مغنّيه، لم يعرفها الفكر العربي كثيراً في كنهها المجتمعي أو الفلسفي، ربما لأن تكوين المجتمع العربي أُونتولوجياً أو سوسيولوجياً لا يتيح معالجتها في كتب أو نصوص أو حتى في الأغنية. لذا تبدو شحيحةً في التداول الغنائي إلاّ من قبيل النواح والشكوى والتظلّم (“وحداني ح اعيش كده وحداني” – فريد الأطرش)، أو من قبيل التَوق الى اللقاء (“وحدُن بيبقو متل هالغيم العتيق… وحدهُن… وجوهُن وعتم الطريق” – فيروز من شعر طلال حيدر)، أو من قبيل اللجوء الى العزّة الإلهية اطّلاباً للخلاص (“وحدي أنا يا ربِّ وحدي… تعبان من هَمٍّ وزهدِ” – صلاح لبكي).
الوحدة، في المحصّلة، مُحرِّرَةٌ الى الخلاص من سلاسل الآخرين إذا عرفنا كيف نصادقُها ونُخصبُها (“الوحدة فوسفور الفكر، كما الحوار فوسفور الذكاء”-إميل سيوران) وهي آفةٌ تُمسي وجعاً مُدَمِّراً لِمن يرى إليها مُجرَّد انعزال مَرَضيّ يودي الى الكآبة المقنّعة أو الحاسرة.
كيف نقاربها الى التَّوق والخلاص؟ نلتقي في الأسبوع المقبل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*