الشعر بين الافتعال والاشتعال
السبت 23 تشرين الأول 2010
– 668 –
في كتابي “سَعيد عقل إن حكى” الذي صدر هذا الأسبوع – حصيلةَ جلسات 50 ساعة من الحوارات مع شاعر “رندلى”-، جاء مقطع “جريءٌ” لا أظنّ شاعراً آخر كان يأتيه. قال لي سعيد عقل: “الشِعر عندي افتعال. حتى الغزَل كتبتُه من ضمن خطّتي الواعية في سياقي الشعري. كنتُ منذ البدء مدركاً تماماً ماذا أريد من الشِعر، وأيَّ تثقيف للشِعر أنا أكتب. جميع قصائدي مقصودةٌ لإيصال رسالةٍ جمالية أو فكرية أو فلسفية أو لاهوتية أو علمية. حتى قصائد الحب لها رسالتها الواعية ولم تكن لِمجرّد أن امرأة أوحت لي بهذه القصيدة أو تلك. هذا أمر ثانوي. من هنا قولي إن الشعر افتعالٌ لأجل هدف معيّن”.
لسعيد عقل أن يرى الى الشعر كما يريد، وهو فيه مَن هو وما حَفَرَهُ في شعر العصر من أُسُسٍ ستبقى طويلاً بعده مزارات. ولكن أيكون الشعر “افتعالاً”، فعلاً، حين هو من قلب الحب؟ أَفْهم أن يكون شعر الغزَل “افتعالاً” حين لا امرأةَ فيه حيّة نابضة بعَصَبها وصوتها ووجهها وعطرها وكلماتها التي غالباً ما تكون هي شمس القصيدة. وأفهم أن يتوهَّم الشاعر ويُوهِم، فتكون قصيدةُ الغزل مكتوبةً لأية امرأَة، أو لامرأة في الخيال، أو في بعض الواقع، وعندها غالباً ما تجيء القصيدة تناغي امرأةً من رخام صقيل أو خيال أصيل، ويمكن أن تقال في هذه أو تلك من النساء، فتكون القصيدة هي المرأة عوض أن تكون المرأة هي القصيدة.
يظلّ الشاعر يَكتب شعر الغزَل حتى يُحِبّ فعلاً. وله أن يكتم حبّه ويظلّ يكتب ما يوحي به غزَلاً من دون تفاصيل حياتية أو حالة أو حدَث، أو له أن يكون شفّافاً فيعلنَ حبَّه ولو جاءه في خريف العمر لينتقل بشعره من “الافتعال” الى “الاشتعال”.
ويرى سعيد عقل أن “الغزَل أهم مدرسة لترقية الشعب. والنهضة في أيّ بلد، تبدأ لعبةَ غزَل. بداية شاعرٍ عظيم، قصائدُ غزَل. ويلُ شعبٍ لم يعرف الغزَل الحقيقي”. ويضيف “لم أبدأ بكتابة قصائد الغزَل إلاّ بعدما أصبحتُ مثقّفاً. صحيح أن بعض الغزَل عشتُه في مطالع حياتي، لكنني في ما بعد صرت أكتب قصائد غزَل غيرَ معاشة مطلقاً، بل من منطلق كتابة الغزَل للغزَل في سبيل خلْق وطنٍ عظيم يقوم على عواطف الغزل الراقي”.
نبيلٌ هذا الكلام حين الغزَلُ واحة قِيَمٍ وفضائل تُرَقِّي شعباً الى النبالة والجمال. ولكن الخطورة في ذلك أن ينحو معظم الشعراء الى “افتعال” شعر الحبّ غَزَلاً يروح “يتغزَّل” بالقيَم المجرّدة حين لا امرأة خارقة تنفحه فيكون شعرَ رُخامٍ لامرأَةٍ من رُخام.
دخلتُ يوماً على شاعر كبير كان عائداً من مهرجان شعري عربي مكرّس، وراح يخبرني عن نجاحه في المهرجان وإقبال الناس على قصائده في الحب. تناولتُ الكلمة الأخيرة منه لأسأله: “هل شعركَ حقاً هو في الحب”؟ فأجاب في نبرة أفقية: “لو كنتُ أريد انتظار المرأة التي أحبُّها كما ترى أنتَ الحب، وأكتبَ فيها شعر الحب الذي تقصدُه، لما كتبتُ في حياتي سوى بضع قصائد”. وخرجتُ من بيته يومها على بعض خيبةٍ من أن يكون الشعر أحياناً مطيّةً للشاعر عوض أن يكون الشاعر رسولاً للشعر.
الشاعر الشاعر، حين ليس على “افتعال” الغزل بل في “اشتعال” الحب، يعمد الى “اشتغال” قصيدته ولو هي من قلب الحب ومن نبض المرأة المعشوقة وحرارتها وكلماتها وأفكارها وصوتها وإيحاءاتها وتماوجات الحب معها بين الرضا والزعل والقسوة والحنان. فالشعر لا “ينزل لابساً ثوبه الكامل”، كما يراه الياس أبو شبكة. بل على الشاعر أن يجمع في قصيدته حيوية حبيبته وحيوية صناعته. الشعر وحي فقط؟ أبداً. إنه شرارةُ وحي عظيم وجَدارةُ صناعة عالية، وهنيئاً لِمن يعطى كلتيهما.
صعبٌ هو الشعر. صعبٌ حتى الضنى. حين هو “افتعال”، يَـبْلُغ العقل. حين هو “اشتعال”، يَـبْلُغ القلب. وحين هو “اشتغال” يَـبْلُغ القلبَ والعقلَ معاً. ومن يَبْلُغ في قصائده شعرَ الحب يَـبَان ذلك في شعره فيكون جَديدُه الحقيقيّ فضيحةَ قديمٍ له قِناعيّ كان يدَّعيه حُباً فيما لم يكن سوى “افتعال” حُبٍّ منقوصٍ أو موهوم، مَحاه الحبّ الحقيقي الذي جاء يكرّس شعره الطالع من “نبضتِها” حين “نبضتُها” هي الشرارةُ التي تُشعل القصيدة، والتي بدونها لا يَصدُقُ شعرُ حُبّ ولا تكونُ به قصيدة.