الحلقة 952: بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية
الأربعاء 27 تشرين الأول 2010
لا تزال المظاهرات تعُمّ فرنسا احتجاجاً على مشروع إصلاح نظام التقاعد درءاً لزيادة العجز في صندوقه.
ورغم ضخامة المظاهرات والصرخات الشعبية والنقابية، صوّت مجلس الشيوخ نهار الجمعة الماضي على المشروع برفع سن التقاعد من 60 الى 62 سنة، وبرفع سن الحصول على المعاش الكامل من 65 سنة الى 67. جرى ذلك بعد ثلاثة أسابيع من النقاشات الحامية بين أعضاء المجلس ولم ترهبه إضرابات واحتجاجات تتصاعد منذ أيلول الماضي في أكبر أزمة شعبية يواجهها الرئيس نيكولا ساركوزي منذ توليه الحكم في 16 أيار 2007.
وفي انتظار قرار الجمعية الوطنية (أي مجلس النواب) بعد مجلس الشيوخ، تتواصل الاعتصامات وتندِّد المعارضة الاشتراكية بـ”لجوء الأكثرية الحاكمة الى فرض الإصلاح فرضاً”، وتحرّض النقابات والهيئات الشعبية إلى ما تسميه “مظاهرات التعبئة الوطنية”.
وسط كل ذلك، خرجت جريدة الـ”ليبيراسيون” قبل يومين بعنوانٍ كبير لافت: “التحرُّك الشعبي لا يضعُف ضد مشروع إصلاح سن التقاعد… والحكومة لا تضعف، وترفض أن ترضخ للمساومة”.
هنا السرّ. هنا نقطة التحوُّل: الحكومة لا ترضَخ للضغط ولا للمساومة، ولا تخضع للابتزاز.
صحيح أن الشعب حين يثور، غالباً ما يكون على حقّ في انتفاضته من أجل رغيفه أو دوائه أو عيشه اليومي حين يكون الإجحاف لاحقاً به وتتجاهله الحكومة. وكم من حكومات سقطت في الشارع وتحت الضغط الشعبي.
ولكنْ… حين الحكومةُ تدرس الملفّ وترى أنها غير قادرة على التجاوب مع مطلب الشعب لأنها عاجزة مالياً عن تلبية طلبه، وإذا فعلَت يرتّب ذلك أعباء إضافية على خزينة الدولة تعود لتنعكس سلبياً على المالية العامة وقد تؤدّي الى إرهاق الشعب بضرائبَ جديدةٍ أو دَينٍ عامّ إضافي، من الطبيعي ألاّ تسمع الحكومة صرخاتِ الاحتجاج ومطالبَ نقابات غالباً ما تكون مسيّسة، وألاّ ترضخ لضغوطٍ غالباً ما تكون وراءها جهاتٌ سياسية مُغْرِضة أو من قَلْب الحكم أو من قلْب التمثيل الشعبي، لأغراضٍ شخصية أو فئوية أو سياسية لا علاقة لها بمصلحة البلاد العامة.
هَيبةُ الدولة تَظهرُ في المفاصل الصعبة. ولا نبرّئ هنا تجاوزاتٍ أو أخطاءَ ترتكبُها الدولة أو تقصِّر فيها مع الشعب. ولكنْ… بين أن يَتَرَفَّهَ الفرنسيُّ في الستين ويعيشَ على معاشه التقاعدي، أو أن يشتغلَ بعدُ سنتين إضافيّتين ترفعان عن صندوق التقاعد مبالغَ ضخمةً لا يحتملُ دفعَها في الوقت الراهن، فضَّل نيكولا ساركوزي أن يربح استمرار قضيّة الصندوق ولو خسر من شعبيته نسبةً مئويةً بلغت مؤخَّراً حدّها الأدنى.
نعود الى معادلتنا الدائمة: رجلُ الدولة متجرِّدٌ يَعمل لمصلحة الدولة كي تبقى في خدمة الشعب، ورجلُ السياسة مُغْرِضٌ يَعمل لمصلحته الخاصة ويُوهِم بأنه يوظّفها لخدمة الشعب.
في المفاصل التاريخية، عند أخذ القرارات التاريخية الصعبة، يتّضِح رجلُ الدولة من رجل السياسة.
يا ربّ، نَـجِّ لبنان من مُغْرضي السياسة فيه، وأَكْثِرْ فيه من رجال الدولة التاريخيين !