الحلقة 942: يكون قيمةً في ذاته… أو لا يكون
الأربعاء 22 أيلول 2010
يسودُ في الأمسيات الشعرية أو القراءات الشعرية أن يأتي المنظِّمون أو صاحبُ الأمسية بعازفٍ يرافقه وهو يقرأ الشعر، ظناً أنّ ذلك يُضفي على الصالة جَوّاً يُساعد في إيصال الشِعر الى المتَلَقّين.
غير أنّ الأمر ليس كذلك، لأن الانتباه عندئذٍ يتوزّع بين سماع الشعر وسماع الأنغام فيضيع النغم في التركيز على الشعر ويضيع الشِعر في التركيز على النغم، وفي هذا إنقاصٌ من الفنَّين معاً.
إذا كانت الموسيقى لـ”دعم” الشعر يعني أن الشعر قاصرٌ عن شدّ الانتباه ويحتاج الى دعامة، وفي هذا إهانةٌ للشعر.
وإذا كان الشعرُ ضعيفاً ويحتاج الى دعامة الموسيقى، يعني أن الموسيقى ثانويةٌ جاءت لتُبرز الشعر، وفي هذا إهانةٌ للموسيقى.
لا يُمكن تركيزُ المتلقّي على الفنَّين معاً في الوقت ذاته، وفي هذا إهانة للفنّ الذي ينصرف الانتباهُ عنه الى الفنّ الآخر.
قبل سنتَين كانت لي تجربةٌ مثلَّثة بأمسيةٍ شعريةٍ قرأْتُ فيها قصائدي مع عزفٍ موسيقيٍّ كلاسيكيٍّ على الپيانو ورسمٍ مباشَر أمام الجمهور، وأثبتَت التجربةُ فشلَها مثلَّثاً لأن الفنون الثلاثة لم تستطع شدّ الانتباه الى ثلاثتها معاً في الوقت نفسه، فكان لكلٍّ منها وقتُه على حساب الفنَّين الآخرَين، وخرج الجمهور من الصالة غيرَ متذوّقٍ “كلَّ” الشعر ولا “كلَّ” الموسيقى ولا “كلَّ” الرسم، بل أخذ من كل فنٍّ لُمَحاً عجْلى متقطّعةً لم تَخلق رابطاً موحداً للأمسية ككلّ.
لم أسمع مرةً أن أمسيةً موسيقيةً احتاجت الى الشِعر ليُرافقَها ويدعمَها. الموسيقى فنٌّ عالٍ مُكْتَفٍ بذاته، مستقلٌّ في ذاته، لا يحتاج الى أيّ دعامة، بل يوصل ذاتَه الى متلقّيه في هيبةٍ وجلال. فلماذا إهانةُ هذا الفنّ الأساسي بجعله ثانوياً في خدمة الشعر؟
إذا كان الشاعر ثانوياً في شخصه وشعره (أي في إلقائه ومادّته الشعرية) وقاصراً عن شدّ الانتباه إليه بشِعره وإلقائه، فلينكفئْ عن الشِعر أو عن إلقاء الشِعر إن كان يحتاج الى واسطة لإيصال شعره. أعرف أنْ لم يُعطَ لجميع الشعراء – المكرّسين طبعاً- أن يُحسِنوا إلقاءَ شعرهم، لكنّي لا أفهم أن يؤتى بالموسيقى ضحيّةً أو مطيّةً لإيصال الشعر الى انتباه الجمهور.
الشاعرُ الشاعر يكتفي بشخصِه، إلقاءً وإيصالاً شعرَه، ولا يحتاج الى أية آلةٍ مصاحِبة، ولا الى أيةِ موسيقى مرافِقة.
يكون شعرُه وحدَه هو الشعر والموسيقى والانتباه في آنٍ معاً.
أما إذا كان قاصراً عن ذلك، فلا يستاهل أن يدخل حرمَ الشعر، أو انه لا يُحسنُ إيصالَه. وفي الحالتين لا يستحقُّ مستمعين يَقصدون القاعة كي يُصغوا إليه ولْيكتفوا بقراءة شعره في كتبه، لأن أيةَ مصاحَبَةٍ أخرى لن تنفع القصائد إن لم تكن شِعراً عالياً، ولن تنفعَ في شدّ الانتباه إن لم يكن الشعرُ في ذاته قيمةً تَستحقّ الانتباه.