هكذا قالت الدمية
السبت 28 آب 2010
– 661 –
طويلاً ظلّت هذه المقطوعة منسوبةً الى الكاتب الكولومبي غبريال غارثيا مركيز، بعدما نشرتْها جريدة “لا ريبوبليكا” (كبرى صحُف الپيرو) في 29 أيار2000 بتوقيع ماركيز الذي كانت شائعاتٌ ( منذ 1999) بدأت تنتشر حول إصابته بالسرطان وتوقُّفه عن الكتابة. وتناقلت صحف أميركا اللاتينية المقطوعة على أنها “قصيدة الوداع” أرسلها المحتضر ماركيز (83 سنة) الى أصدقائه مودّعاً إياهم بعدما شعر بدُنُوّ الموت. ثم تناقلت الإذاعات هذه المقطوعة ووصلت الى قراء العالم كلّه عبر الإنترنت.
والى رعشات وجدانية في المقطوعة، وردَت فيها عبارات عادية مستهلكة استغرب النقاد والعارفون صدورها عن كاتب كبير بحجم ماركيز (نال نوبل 1982 للآداب)، وهو اليوم من أكبر كتّاب أميركا اللاتينية والأدب العالمي.
حين عاد ماكيز الى النشر (آخر كتاباته “رواية حُبّ”) خرج عن صمته بأنّ المقطوعة له، ونفى أخيراً أن يكون صاحبها. ونتيجة التقصيات تبيّن أن كاتبها الحقيقي هو جوني وِلْش، مكسيكيّ عاديّ مُحَرّك دمى في مسارح صغيرة، كتبها لدُميته ويؤديها بصوته المبطّن. وصرّح لإذاعة “إنفو رِد” المكسيكية أنه وقع في حزن عميق عندما انتشرت مقطوعته باسم غبريال غارثيا غوميز، واعترف بأنه ليس كاتباً مُحترفاً لكنه غاضب وحزين لانتقال النص الى كاتب آخر ولو عالمي.
الشاهد من هذه الحادثة، وأبعد من اللغط التي رافقها، أنّ الناس يؤخَذون بالكلام البسيط، يؤثّر فيهم، يهزّهم، وغالباً ما لا يهتمُّون لكاتبه، شهيراً كان أو مغموراً، فالأهم ما يَدخل القلب آتياً من القلب. وهو ما قالته دمية جامدة بلا حياة، وخاطبت به قلوب الناس النابضة بالحياة. فالناس إجمالاً يمرون حدّ الحياة ولا يرونها، يعيشونها ولا يحيونها، يتلقَّونها ولا يتذوّقون جمالاتها.
من تلك المقطوعة: “لو انّ الله يَنسى لِلَحظةٍ أنني دميةٌ تافهة، ويُعطيني فِلذةً من حياة، قد لا أقول كلّ ما أفكّر به، لكنني أكيداً أفكّر بكل ما أقوله، وأقدِّر الأشياء لا بما تساوي بل بما تعني، وأنامُ قليلاً وأحلم أكثر. فأنا أعرف أنّ كل دقيقة نُغمض فيها عيوننا، نُضيعُ ستين ثانيةً من النور (…). لو ان الله يمنحني فِلذةً من حياة، لكنتُ أمشي حين الآخرون يتلكّأُون، وأصحو حين الآخرون ينامون، وأصغي حين الآخرون يتكلّمون. ولكنتُ أرتدي ثوباً بسيطاً وأتمدَّد في الشمس لا جسداً وحسب بل روحاً كذلك (…). لو انّ لي قلباً يَنبُض، لكنتُ أَكتب حِقدي على قطعة ثلج وأنتظر شروق الشمس عليها. ولَما تركتُ يوماً واحداً يمرّ من دون أن أقول لِمن أُحبهم إنني أُحبهم. ولكنتُ أُقنع كل امرأة أو رجل بأنهما غاليان عليّ، وأنني أحيا على حُب الحُب. ولكنتُ أُثبت للناس خطأَ تفكيرهم بأنْ لن يُحبوا حين يشيخون، غير مدركين بأنهم يشيخون حين لا يعودون يعيشون الحب. ولكنتُ أُعطي الطفل جناحَين، لكنني أعلّمه كيف يطير (…). كثيراً تعلّمتُ منكم أيها الناس. تعلّمتُ أنّ كل واحد منكم يريد أن يعيش على قمة الجبل غير مدرك أن السعادة الحقيقية هي في كيف نصعد الى القمة (…). تعلّمتُ أنْ حين المولودُ الجديد يلمس بإصبعِه إصبعَ أبيه، يكون أمسك بأبيه مدى الحياة (…). تعلمتُ أنْ ليس يحقّ لإنسان أن يرمق أخاه الإنسان بنظرة من فوق، إلاّ حين يساعده على النهوض (…). كثيراً تعلّمتُ منكم أيها الناس. لكنّ معظمُ ما تعلَّمتُهُ لن يفيدني في النهاية، لأنني – حين يضعونني في هذا الصندوق – سأكونُ بدون فلذةٍ من حياة”.
أهمية هذه المقطوعة: بساطةُ كلماتها وفلسفةُ الحياة في بساطة معناها الحقيقي. ولعلّ وراء سكوت ماركيز عن تكذيب نسبتها إليه، كانت رغبته في تبنّي أفكار الناس البسطاء حين تذهب في الاتجاه الصحيح وتلامس قلوب الملايين وتؤثّر في حياتهم.
إن الإبداع لم يكن مرةً في التعقيد والدوران حول الحقيقة. الحقيقة بسيطة كالوردة، كنور الشمس، كضحكة طفل بريء. وكذلك الإبداع: عبقريتُه في بلوغه قلوبَ الناس بالبساطة نفسها التي تنبض بها قلوب الناس، وخصوصاً برعشات الحب الحقيقي.
وما عدا ذلك، إبداعٌ رخاميّ، أنيقٌ وجميلٌ، لكنه… لا نبض فيه.
تماماً كالفرق بين قصيدة الغزل الرخامية، وقصيدة الحب النابضة بالحياة.