660: من الشخص إلى الشخصية (2/2)

من الشخص الى الشخصية (2 من 2)
السبت 21 آب 2010
– 660 –

من القدَر القاسي على الكاتب أن تَخلُد غالباً شخصياتُه أكثر منه، فتقوى شخصية الورق على شخص الكاتب الحي، وقد تصبح الشخصية كائناً حياً متنقّلاً بين الناس بعدما يكون الشخص (الكاتب) غادر هذه الدنيا. وعوض أن يشار الى الكاتب يشار الى الشخصية حتى لتغدو أحياناً مثالاً أو رمزاً أو صفةً تلازم مَن ينطبق عليهم وصفُها. وبعدما تكون الشخصية أخذت من الكاتب حيّزاً معيناً في كتابه، تكسر طوق الكتاب وتتخطّى حدوده لتبلغ القراء وتؤثّر فيهم أكثر من الكاتب، وتسري على ألسنتهم متنقِّلةً من جيل الى جيل، فتعيش شخصية الكتاب وتشتهر خالدةً في الذاكرة فيما يموت في شخصه كاتبُ الكتاب. وهو ما يحصل خصوصاً حين تنتقل الشخصية من الكتاب الى المسرح أو السينما أو التلڤزيون، فتخلُدُ نهائياً حقيقية نابضة حية، ويلبسها الواقع حين يتداولها الناس في واقعهم، ويروحون يُماهون بها أشخاصاً في مُحيطهم يشبِّهونهم بها أو يشبّهونها بهم.
وقد تأتي الشخصية من قديم الميثولوجيا (عقدة أوديپ مثلاً) فتَعْبُر من كاتب الى آخر ومن عصر الى عصر، يغيب كتّابُها جيلاً بعد جيل وتَخلُد الشخصية بمعزل عن كاتبها. فثنائي روميو وجولييت (رمز العاشقَين الخالدَين ومثال الحبّ الجَمّ في كل مكان وزمان) يرقى أصله الى أسطورة يونانية (پيرام وتيسبيه) وسَّعها أوڤيد في كتابه “التحوُّلات” ناقلاً الأحداث الى بابل ليفسّر أصل اللون الأحمر في التُوت حيث قضى العاشقان على ضفة النهر تحت شجرة التوت الأبيض. ثم جاء شكسپير فتناول عائلتين مختلفتين في ڤيرونا ورَدَ ذكْرُهما في رائعة دانتِه “الكوميديا الإلهية” من دون قصة حب لديهما بل شكسبير صاغها حباً عاصفاً. لكن ثنائي روميو وجولييت تخطى شكسپير ودانته وأوڤيد الى شخصيّتين خلّدَتْهما أعمال الشعر والمسرح والموسيقى والسينما والرقص.
هكذا تولد الشخصية من يراعة الشخص (الكاتب)، فتتخطاه الى الخلود حيّة فيما لم تكن من قلمه سوى حبر على ورق. وهو ما تناوله الأخوان رحباني حين كتبا “ناس من ورق”: “قَصقِصْ وَرَق، ساويهُن ناس، قَصقِصْ ورق على إِسم الناس، سَمّيهُن بأَساميهُن وتْحاكيهُن… بيصيرو ناس”.
جميع الأنواع الأدبية يرتكز عصبُها على الشخصية، إلاّ الشعر. عَصَب القصيدة شخصُ الشاعر لا شخصية يوجدها. والشعر عواطف وأحاسيس مُجرّدة نظرية تَجريدية لا ترتكز على شخصية، تُترجمها القصيدة من الشاعر الى الشاعر أولاً ثم الى قرائه الذين يتماهَون بالشاعر نفسه، بشخصه، بما في قصيدته من عواطف وأحاسيس لن تنتقل الى الناس لتصبح رمزاً أو مقالاً سائراً (كما أية شخصية روائية أو ملحمية أو ميثولوجية). الناس يتماهون بالقصيدة، يردّدونها، يتبَنَّون مشاعرها، ينتسبون إليها في حالات عشقهم أو غضبهم أو فرحهم أو حزنهم، تصبح القصيدة رفيقتهم، والشاعر صديقاً لهم بشخصه كأنه قالها لهم أو فيهم أو عنهم.
إذاً، ليس في الشعر شخصية بل شخص. والشخصُ هو الشاعر. قصيدتُه الذاتية تنتقل غيريةً الى الآخرين فيعتنقونها أيقونة لحظاتهم، يُخَلّدونها فتخْلُد القصيدة ويَخْلُد شاعرها. من هنا عبثاً يبحث الناس عن “شخصية” في القصيدة، أو عن الحبيبة التي يكتب الشاعر منها إليها إليه إليهم، لأنّ الشاعر الشاعر هو من يعرف أن يُحَوّل حبه من ذاتيةٍ في حدث الحب الى غيريةٍ في حالة السوى كي يتماهى بها السوى ذاتيةً له تعكس مشاعره وعواطفه وحالاته وأحاسيسه وتعابيره وخيالاته وأوهامه وأحلامه الشتى.
عبقرية الشاعر الشاعر أن يكون نبْض الآخرين حين يرسم نبْضه في القصيدة، وأن ينقل جنونه بِحبيبته الى حالة شعرية كأنها تَخصّ الناس كي يأنس لها الناس ويَلبَسوها حالتهم.
قوّة الحب في الشعر مرآةُ قوة الحب في الشاعر. هي الصدق الذي حين يرى إليه الشاعر يرى فيه خلوداً له ولحبيبته معاً، ومنهما تنتقل القصيدة بشخص الشاعر لتصبح في ذاتها شخصية لا تشبه إلا شخص الشاعر. وهنا مَجد الشعر ومَجد الشاعر ومَجد الحب الذي يُخصِب لحظة الشاعر ويُوَلّد الشعر.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*