قوّة الموسيقى في موسيقى اللغة
السبت 31 تموز 2010
– 657 –
من فيلاّدجيو مانكُوزو (جنوب إيطاليا)
سنة 1308 شرع الشاعر الإيطالي دانتِي ألّيغييري (1265-1321) بكتابة ملحمته “الكوميديا الإلهية” في اللهجة التوسكانية المحلية، طعَّمَها ببعض اللاتينية ولهجات محلية مجاورة. وما هي حتى أخذت تواجهه الاعتراضات: كيف يكتبها في لهجة مَحَلّية مَحْكيّة، وإيطاليا كأوروپا كلّها تستخدم اللاتينية الفصحى: لغة الفاتيكان والكنيسة والمؤرّخين والعلماء وروائع الأدب والشعر الأوروپية؟ وكان جواب دانتِي حاسماً: “أَكتُبُ في لغة إيطاليا المستقبل”. وفعلاً: حين تشظّت اللغة اللاتينية وخرجت منها الفرنسية والإسپانية والبرتغالية والرومانية والكتلانية، كانت الإيطالية هي التي استخدمها دانتي في رائعته، مبرهناً أن اللغة المحكية قادرة على التعبير عن جميع المواضيع. وانتشرت بعده الآثار الأدبية في تلك الإيطالية المحكية التي سماها النقّاد الفرنسيون “لغة دانتي”.
الأمر نفسه حدَثَ مع الشاعر الإنكليزي جفري تشوسِّر (1343-1400)، وهو كتب رائعته “حكايات كانتِربُري” (1380) حين كان في مهمة دپلوماسية الى إيطاليا فوضعَها (هل تأَثُّراً بدانتِي؟) لا في لاتينية العصور الوسطى الكانت سائدة بل في ما كانت تسمى عصرئذٍ “الإنكليزية الوُسطى” (لهجة شرقيّ ميدلاند المحكيّة في لندن وبعض ضواحيها) حتى إذا تشظّت اللاتينية اعتمدَت إنكلترا لهجةَ تشوسِّر لغتَها حتى رأى النقاد أنّ تشوسِّر هو “أبو اللغة الإنكليزية” التي سادت في ما بعد وبها كتب شكسبير.
سنة 1923 أجرت مجلة “الهلال” في القاهرة استفتاءً حول “مستقبل اللغة العربية” شارك فيه أدباء تلك الحقبة، بينهم جبران الذي جاءت إجابته حاسمة بأنّ اللغة تتّبع سُنّة البقاء فلا يبقى منها سوى الأنسب، وفي اللهجات المحكية كثير من هذا الأنسب الذي سيبقى لأنه لغة الناس، فيلتحم مع اللغة المتداولة: لغة اللسان التي إذا سقطت منه سقطت في النسيان.
تلك “المحكيات” التي صارت “لُغات”، لها قوّتُها الخاصة في موسيقاها وقاموسها معاً. وهو ما انتهجه مهرجان “قوّة الموسيقى” (منذ تأسيسه سنة 2002 في هذه الضيعة الجبلية الجميلة من جنوبي إيطاليا) اعتماداً على قوة الموسيقى في اللغة، عدا القوّة التي في لغة الموسيقى. لذا، في دورة 2006، استضاف المهرجان شعراء المحكية في جزُر المتوسط فجاؤوا بتراثهم المحكي وغنّوه على المسرح، كما جاءت في دورة 2009 فرقة من الباسك قدمَت مَحكيّتها (دخلَت اليوم في برامجها المدرسية). كما استضاف المؤتمر فرقة من الصُّمّ قدّموا (بالإشارات) شعرهم المغنّى فكانت موسيقى الصمت لغة الإشارات، وتمايلَ الحاضرون من الصّمّ تصفيقاً متَجاوبين برفع الأذرع في الهواء وتحريك الأصابع ابتهاجاً بالغناء الصادر إليهم من الإشارات التي كانت مترجَمة فوراً الى اللغة الإيطالية كي يتابعها الجمهور العادي. كانت تجربة فريدة وغريبة عبر إشارات تلتقطها العين حركاتٍ تتحوّل تموُّجاتٍ في طبقات الدماغ يترجمها الدماغ إيقاعات موسيقية. وهذا العام استضاف المهرجان فرقة من المكفوفين المحرومين من متابعة الموسيقى بأعينهم، فتابعوها عبر قوةٍ خاصةٍ لديهم في حاستهم السادسة.
وهذا العام أيضاً ظهرت قوة الموسيقى في محكيّة الزجل اللبناني (استضاف له المهرجان الشاعرين أنطوان سعادة والياس خليل) لتقديم هذه الظاهرة الفريدة بفخامتها وعمقها وغنى أنواعها (القصيد، المعنّى، القرّادي، الموشّح، المخمَّس المردود، الشروقي، العتابا والميجانا،…) وموسيقاها المغايرة عن المحكيات في زَمَل اليمن ونبطيات الخليج العربي وسواها من محكيات العربية.
وكان اللافتُ في زجل لبنان غناءَه على المسرح محاوراتٍ ثنائيةً بارعة، ثم ارتجالَه الفوري موضوعاً طلبه الجمهور الإيطالي فتَحاوَرَ به الشاعران المتمكّنان في سهولة وعمق. وأَغنى الزجلُ اللبناني ذاكرةَ هذا المؤتمر بتأكيد قوة الموسيقى في موسيقى لغة الشعر.
قوّة الموسيقى؟ وحده الشعر الكلاسيكي، خارجَ لغتها، قادرٌ على إبرازها بفخامةٍ تجعل الكلاسيكية عمراً لا يختُمُه عمر.