أيُّهما الشعر : الحبيبة أم القصيدة؟
السبت 24 تموز 2010
– 656 –
في بالي هذا المشهد: عاشقةٌ ذاتُ عباءةٍ مقصّبة، جالسةٌ بين الحضور في احتفال كبير، تكتب هَمساً لِحبيبِها كلماتٍ دافئةً تنسابُ بين خيوط الضباب المتصاعد من قلب الوادي إلى باحة الاحتفال. تلفُّ العاشقةُ عباءتَها كي لا تصيبَها لفحةُ برد. ترفعُ عينَيها إلى البعيد، حيث حبيبُها غيرُ البعيد يرنو إليها في حُبٍ كثير، مِلْء حنانه الغامر، وهي بوجهها القمَري المشِعّ مأخوذةٌ بنظرته إليها تتسلَّل إلى قلبها بين جمهور كثير يتابع الاحتفال ولا يتنبَّه إلى عاشقَين يتبادلان الحب العاصف في نظرات هامسة وكلمات حافية يتبادلانها، تُشعل فيها الوله الكثير، وتُشعل فيه لحظة قصيدة جديدة.
أيُّهما الشعر هنا: الحبيبة؟ أم القصيدة؟ لو لم تكن الحبيبةُ جالسةً بين الناس، “تُراسل” حبيبها بكلماتٍ دافئة، أكانت اشتعلَت فيه لحظة القصيدة؟ هل كان سَـ”يفترض” الحبيبة موجودة بين الناس ليولَدَ في قلبه مطلع القصيدة؟ وهل قصيدته تكون في الزخم نفسه والصدق إياه والشاعرية ذاتها بين وجود الحبيبة في ذاك الاحتفال، وافتراضه وجودها؟
هذه الجدلية في الأولويّة، بين الحبيبة والقصيدة، ماثلةٌ في الشعر منذ كان الشعر. يبقى ما يبلُغ المتلقّي: هل شعر من الخيال، أم شعر من الواقع؟ شعر من الحالة، أم شعر من الحدث؟ الأكيد أن الحدث يخلق الحالة، ولكن هل يمكن الحالة أن تخلق الحدث؟
في مجلس ضم نُخبة أدباء لدى الشيخ فؤاد حبيش في “دار المكشوف”، كان الحديث حول المرأة في قصيدة سعيد عقل: هل هي موجودةٌ فعلاً في حياة الشاعر؟ وهل هو يكتب قصيدته لامرأة موجودة أم لحبيبة يفترضها خياله الخلاّق؟ كان الحوار عند هذه النقطة حين وصل عمر فاخوري، وهو مَن هو في النقد الأدبي الموضوعي. وبعدما استمع إلى الرأيين، كان جوابه الحاسم: “لا هذه ولا تلك. لا هي موجودة ولا هي افتراضية. سعيد عقل لديه امرأة واحدة يكتب لها ومنها وإليها دائماً. إنها القصيدة”.
يروي سعيد عقل هذه الخاطرة ويؤكّدها، بل يباهي بها لأنها حقيقته: القصيدة في شعره هي المرأة الدائمة. لذا يَسُرُّه كثيراً من يقول إن سعيد عقل في قصيدته الجديدة ينافس سعيد عقل في قصيدته السابقة. فالمحور عنده هو القصيدة. هذا خَياره وهذا دأْبُه طوال مسيرته الشعرية العالية. وبهذا الخيار نصَّع القصيدة إلى أعلى مستوياتها، ورفَعها إلى أرقى تساميها، فجعل لها مكانة الهدف لا الوسيلة، الرؤيا لا الرؤية، القمة لا الجسر، فإذا كل قصيدة من سعيد عقل عالَم من الشِعر جديرٌ بالاكتشاف.
في إقليم آخر من هذا التفكير، يوردُ جوزف صايغ في مطلع كتابه “ثلاثيات” هذه العبارة الرائعة: “كلّما كان لِلُّغة أن ترتعشَ أمام الحبيبة، وُلِدَت للقَول نَجمةٌ يُسمُّونها الشِعر”. أهمية هذه العبارة في كلمة “ترتعش”. هنا المفتاح. هنا السر. هنا اندلاع “الحالة” الشعرية من “حدث” ارتعاش الشاعر أمام الحبيبة. يرتعش، نعم. حين يراها يرتعش. حين يسمعها يرتعش. وهو ينتظرها يرتعش. إذا غضبَت يرتعش خوفاً من خسارتها. إذا رضيَت يرتعش غبطةً وسعادة. إذا أخطأَتْ يضع الخطأ فيه كي يبرِّئها فتبقى في عينيه معصومة عن الخطأ. إذا ابتعدَت يرتعش من انتظار. إذا جاءت يرتعش من عَـبّ الزمن كلِّه في لحظات لقائهما.
هنا المفتاح. هنا السر. الحبيبة الافتراضية تظلّ القصيدة إليها افتراضية. الحبيبة الموجودة تولد القصيدة إليها نابضة بالرعشة. الحبيبة الموجودة هي الحدَث في كل لحظة، وتشعل الحالة في كل لحظة. الحبيبة الافتراضية لا حدث معها، لذا حالتها لا تشتعل بل تلتمع. الالتماع يؤدّي إلى شعر الغزل الجميل. الاشتعال يؤدي إلى شعر الحب المغمّس بالنبض.
أيُّهما الشعر: القصيدة أم الحبيبة؟ مع القصيدة دائماً حالةٌ شعرية. مع الحبيبة دائماً حدَثٌ شعريّ. الحالة قد تطول ما طال خيال الشاعر. الحدث سريع العطب، يتناوله الشاعر بأطراف كلماته خوف انكساره. الحالة رعشةٌ افتراضية. الحدَث رعشةٌ حقيقة.
الافتراضيّ يَخلقُ تمثالاً جميلاً لامرأة جميلة. الحقيقيّ يولَدُ من حبيبةٍ وحيدةٍ تَحمل في قلبها جنيناً آخر هو الشعر.
والشاعر الشاعر هو نبضُ هذا الجنين الآخر.