الاستعارة، يا ماريو، شمس الشعر
السبت 15 أيار 2010
– 647 –
وسط أجواء مهرجان “كانّ” السينمائي هذه الأيام، وما تستعير السينما من تُحف ثقافية في عالم الأدب والشعر، نتذكَّر الفيلم الإيطالي “إِلْ.پُوستينو” (“ساعي البريد” – 1995) وفيه فلذةٌ (معظمُها افتراضية) من حياة الشاعر التشيلي پابلو نيرودا خلال لُجوئه سنة 1952 الى جزيرة كاپري (جنوبي إيطاليا) بعد تحظير الرئيس التشيلي الحزب الشيوعي. في تلك الجزيرة اتخذ الشاعر شاباً يدعى ماريو لِمهمة “بوسطجي” ينقل بريده الكثيف كل يوم الى كوخه النائي في عمق الجزيرة. نال الفيلم عامئذٍ أوسكار أفضل موسيقى فيلم، وترشّح لأكثر من أوسكار (أفضل مُمثّل، أفضل مُخرج، أفضل سيناريو) لِما جاء فيه من رومنسية جميلة في معالجة القصة الطريفة بين الشاعر والبوسطجي. فهذا، لكثرة مؤالفته الشاعر، سأله ذات يوم أن يعلِّمه الشعر، فأجاب الشاعر أن مهنة ساعي البريد أسهل وأطرف من الشعر. ويسأل البوسطجي: “كيف أكون شاعراً؟” فيجيب الشاعر: “عشْ في هذا الإطار الطبيعي، على هذا الخليج، وسط هذه الجزيرة، تَكُن شاعراً. وكلما أكثرتَ من الاستعارات، أشرقَ الشِعر عليك. الاستعارات يا ماريو هي شمسُ الشعر”. ويستفهم البوسطجي: “إذا قُمتُ بما تقول لي، أتأتيني لوحدها الاستعارات”؟ فيجيب الشاعر: “حتماً”. “وما الاستعارات؟” يسأل ماريو فيردّد الشاعر: “السماء تبكي” ويفهم ماريو: “إنها تُمطر”. وراح ماريو يستقطب حبيبته بياتريس بـ”قصائد” خافت عمّتها من استعاراتها فأخذتها الى الكاهن يفسرها خشية أن تكون فيها أَلْغازُ سحرٍ للسيطرة على بياتريس. وماريو يواصل كتاباته واستعاراته، كأن يكتب إليها يوماً: “شفتاكِ تُحَوّمان في وجهكِ كما فراشة في فضاء”.
الى مثل هذا الحوار الجميل الموحي، استخدم المخرج (مايكل رادفورد) استعارات بصرية في لقطات ذكية فأظهر بالكاميرا مشهداً ليَعني آخَر (لقطة الطابة الصغيرة الحمراء بين شفتَي بياتريس، لتعني قبلةً تنتظرها من عاشقها ماريو).
نحن هنا في قلب الشعر، وعلى نصيحة أحد أكبر شعراء القرن العشرين. فالاستعارة سرٌّ كبير في براعة اللقطة الشعرية. حين يستخدمها الناثر يرفع مستوى نثره الى مرتبة اللحظة الشعرية التي، في طبيعتها، أن تكون كلاماً مغايراً بين سائر الكلام العادي. فمن النثر العادي أن يكتب ناثر الى حبيبته: “أرى عينيكِ حزينَتَين”. لكنه إذا كتبَ لها: “أسمع حُزن عينيكِ” أو “أَشتَمُّ عطر الفرح في كلام عينيكِ” يكون بلغ الْمُغايِر في الكلام، والشعرَ في التعبير، والجماليا في استعارة حاسةٍ لوظيفة أخرى (سماع البصر، اشتمام الكلام الصامت،…) فتكون الاستعارة هنا هي المدخل الى اللحظة الشعرية التي تُدخل المتلقّي، بدورها، في “حالة ثانية” يَنتقل إليها المتلقّي حين هو أمام حالة جمالية في الفن (صورة شعرية جميلة، لوحة جميلة، موسيقى جميلة، لقطة جميلة في فيلم توصل الى معنى أبعد،…). وهنا دور الفن العالي: أن يَنقل متلقّيه الى “الحالة الثانية”.
شرط الاستعارة، كي توصل الى الجماليا، ألاّ تتّكئ على أدوات التشبيه والاستعارة. ففي عبارة ماريو البوسطجي “شفتاكِ تُحَوِّمان كما فراشة” استعارةٌ عاديةٌ مسطّحة بسَّطَتْها أداة التشبيه “كما”. بينما لو انه قال: “شفتاكِ فراشةٌ تُحَوِّم في فضاء وجهكِ” لكانت استعارتُه أقوى وأجمل. وهنا مقصد نيرودا بأنّ الاستعارة “شمس الشعر”. لكنّ هذه الشمس تَخفُت وتَخبو الى نور عادي حين يتّكئ الكاتب على أداة تشبيه تُبعد استعارته عن الكناية المجازية البارعة المعوَّل عليها أن تخلق لحظة الإدهاش في الشِعر. والشِعر، في كينونته الأُولى، لحظةُ إدهاش ومباغتة جميلة، لحظةُ خيمياء تُحَوِّل الكلام العادي كلاماً غير عادي، لحظةُ سحرٍ عجيب رائع حين يتولاّهُ شاعر يعرف كيف يُلاعبُ الكلمات، كساحرٍ بارع يُمسك بطابات ثلاث أو أربع، ويروح يرميها في الهواء ويتلقَّاها في ما سوى يدين اثنتين، خالقاً في المتلقّي لحظةَ إعجاب وإدهاش.
بلى: الشاعرُ ساحرُ الكلمات، والاستعارة البارعة “شمسُ” هذا السحر.
هكذا تكون شاعراً… يا ماريو.