الحلقة 898: القصيدة تنقلب على صاحبها
الأربعاء 21 نيسان 2010
من قديم ما في فنون الأدب: شعرُ الهجاء. وهو غالباً يُتيحُ للهاجي التعبيرَ عن غضبه أو انتقامِه أو تنفيس حقده الدفين. غير أنه أحياناً ينقلبُ على صاحبه فيورِّطه في ما هو أَسوأُ من السبب الذي أدّى به الى الهجاء.
من هذه الـ”أحياناً”: ما حصل لدركيٍّ فرنسيٍّ نَشرَ على موقع جمعية “الدرك والمواطنين” قصيدةً هجا فيها إدارةَ الرئيس ساركوزي، وانتصر لقائد سَريّته الضابط جان-هوغ ماتيلّي (Jean-Hugues Matelli) الذي كانت سَرَّحتْهُ القيادة قبل أَسابيع لِمخالفتِه قوانينَ الخدمة العسكرية، وانتقادِه الدمجَ بين رجال الدرك وفصائل الجيش ضمن وزارة الداخلية، ما جعل رئيس الجمهورية الى إصدار أمرٍ بتعليق خدمة الضابط من سلك الدرك.
القصيدة الهجائية عنوانها “تُمطِر تحت خوذاتنا”، هاجم فيها صاحبُها الهرمَ الإداري الذي على رأسه من سَمّاه “الملك الجديد ساركوزي” لأنه، كما جاء في القصيدة، “يفرّق كي يسود، وينجحُ في استقطاب أزلام له يرفعونه لكنهم يقرِّبونه من السقوط”.
ويمتدح الدركي رئيسه الضابطَ المسرَّح لأنه تَجَرَّأَ على قول رأيه باسم رفاقه في السلك “فأزاحه حفارو خنادق السلطة”، على ما جاء في القصيدة.
ما كانت نتيجة القصيدة؟ صدر أمر بتسريحِ صاحب القصيدة، وتعليقِ خدَماته من السلك، ووضْعِه في التصرُّف بانتظار المحاكمة. وأثار هذا القرارُ غضب نائب رئيس جمعية الدِّفاع عن حقوق العسكريين جاك بيسِّي (Bessy) الذي اعترض على هذا الإجراء القمعيّ الثاني (بعد تسريح الضابط الأول) معتبراً أن “التسلسل الإداري في السلك بات يعني الانصياعَ المطْلق والطاعةَ العمياء وضرورةَ السكوت عن أيِّ أمرٍ أو قرار، وإلاّ تتّخذ الإدارةُ إجراءاتٍ تعسفيةً تُذَكِّر بِما يَجري شبيهٌ له في دولٍ أخرى وأنظمةٍ أُخرى”.
ويَختم صاحب القصيدة بهذه الأبيات: “لم يعد يَجوز السكوت، وإلاّ فهي النهاية. في بلادِ حقوق الإنسان تضيعُ حقوقي. أنا وفِيٌّ لفرنسا لكنني لن أَسكتَ عن ظُلْم، ولو انتهى بي الأمر الى أن أنتهي، فلن أذهب الى نهايتي إلاّ بعدما أقول كلَّ شيء. فيا جنڤياڤ، يا شفيعةَ پاريس ورجالِ الدرك، إنّها تُمطِر في خوذاتنا”.
طبعاً لن نناقش أمر تسريح هذا الدركيّ، ولا صحةَ أو خطأَ قرار الإدارة الفرنسية، فهذا أمر يعنيها ولا يعنينا. لكننا نرى أنّ القصيدة – بعيداً عن قيمتِها الشعرية غيرِ المهمّة – هزَّت الركن الدركي، ولو انقلبَت على صاحبها وسبَّبَت قرار فصله.
لكنَّ صاحب القرار يذهب يوماً الى النسيان، والقرارَ يذهب الى أدراج الأرشيڤ، وتبقى وحدَها القصيدةُ مواصلةً مسيرتَها في فجر الذاكرة.