الحلقة 892: قبل أن يرتجلُوها مطعماً
ليـوم الأحــد 28 آذار 2010
يغبِطني أن أتلقّى، بعد كلّ حلقة من “نقطة على الحرف”، اتصالاتٍ هاتفيةً أو رسائلَ إلكترونيةً، من أصدقاءَ أو مستمعين أو قرّاءٍ إنترنتيين حول العالم، معلّقين، سلباً أو إيجاباً أو اقتراحاتٍ بناءةً، على هذه الحلقة أو تلك.
وهو هذا ما حصل بعد إذاعة الحلقة السابقة من “نقطة على الحرف” (الأربعاء الماضي) حول محطة السكة الحديدية المهمَلَة في طرابلس، والتي أَكَلَها الصدأ والعشب البري، عوض أن تكون اليوم متحفاً للذاكرة اللبنانية، بما تختزنه هذه المحطة التاريخية من معالِمَ وأحداثٍ جديرةٍ بِحفْظها إرثاً للأجيال المقبلة.
على أنّ بين أطرف ما وصلني حول هذه الحلقة: تعليقٌ مقتضَب من صديقةٍ، جاء فيه: “أَضأْتَ على مَحطة طرابلس بشكل مُغْرٍ حتى ليُخشى أن يَهبُطَ عليها من يستأجرها أو يشتريها ويُحَوِّلها… مطعماً”.
هذا التعليق، على طرافته الباسمة، يعكِس حقيقةً غير باسمة، بعدما فعلاً عمد البعض الى تحويل أبنيةٍ عندنا أثريةٍ أو بيوتٍ تاريخيةٍ مطاعمَ غيّرتْ معالِمَ الأصل كي تتَّفقَ مع متطلِّبات المطاعم وتلويث الجوّ بزعيق الأغاني ودخان اللحم المشوي والسيجارة والسيجار والأراكيل.
ولنا أمثلةٌ على ذلك في مبنى “التياترو الكبير” في وسط بيروت، وكان مرشَّحاً أن يتحوَّل مطعماً بعدما كان أروع مبنى للمسرح في العقود الأولى من القرن العشرين وشهد أعمالاً مسرحيةً خالدةً واحتفالاتٍ رسميةً تاريخيةً (بينها احتفالُ استقبال جثمان جبران خليل جبران رسمياً في آب 1932)، وكذلك بيت الرئيس فؤاد شهاب في جونيه وهو كاد يتحوَّل مطعماً لو لم يبادر المخْلِصون الى وقف تهديمه وتغيير معالِمه التي هدَمَ المعول معظمَها، ويُخشى أن يتحوَّل القصر الجمهوري في زوق مكايل الى هوية أخرى إن لَم تبادر الدولة الى وضع اليد عليه وجعله على لائحة الجرد العام مبنى أثرياً لا يُمَسّ.
هذه الظاهرة تشير الى عدم الوعي الرسمي، والشعبي أحياناً، على مغانٍ أثرية عندنا كانت ستصبحُ متاحفَ لافتةً تستقطب الزوار والسيّاح لو انها في دولةٍ تعرف كيف تَحفَظ الذاكرة في إرثِ معالِمها وتراثِ تاريخها، بينما عندنا يرتجل الكثيرون هنا مطعماً في بيت ذي دلالة، وهناكَ حانةً ليليةً في حيِّ سكني، وهنالك علبةَ ليلٍ في فرن سابق أو كاراج سابق أو دكان سابق أو قبو سابق، ليتحوَّل المكان بركاناً من الضجيج والصخب والعهر الليلي السكِّير، مانعاً من النوم الهانئ أهلَ البناية أو الحي أو الشارع، وليس مَن يتحرَّك، وليس من يراقب، وليس من يزجُر أو يوقف هذا الانفلات الخَطِر.
ونأمل أن تتحرّك المسؤولية في ضمير المعنيين بأمر الحفاظ على محطة طرابلس التاريخية، قبل أن يأتي على مبانيها المهدَّمة وقطاراتِها الجاثمة من يرتَجِلُها مطاعِمَ للّحم المشوي والأراكيل، تغتال تاريخها، وتُشَوِّه معالِمها التي هي جزءٌ نابض من ذاكرة لبنان.