الحلقة 891: كي لا تتوقَّـفَ الذاكرة مع توقُّف القطار
الأربعاء 24 آذار 2010
على خاصرة “بُرج السّباع” في طربلس، الذي يعود الى القرن الخامس عشر والمتداعية قلعتُهُ مُهْمَلَةً جاثِمةً في صمت، تتداعى مَحطّةُ قطار طرابلس، جاثِمةً مُهمَلَةً هي الأُخرى، في انتظار أن يَنحسرَ عنها “أبو هَول” السنوات المالِحَة.
والعريضة المجتهدة التي يَجمع التواقيعَ عليها “أصدقاءُ مَحطّة السكة الحديدية في طرابلس” لإنقاذ المحطة، عملٌ تَطَوُّعيٌّ سامٍ ترادفَ مع ندوة توعيةٍ لدى المركز الثقافي البلدي في طرابلس، وحملةِ تصويرٍ في المحطة ظهرت لقطاتُها المعبِّرة في معرض “أنقذوا مَحطّتنا” ملْءَ الصالة الزجاجية لوزارة السياحة، فندوةٍ وبثِّ صوَرٍ لدى معهد العالم العربي في پاريس، فمعرضٍ مؤخراً لدى مركز الصفدي في طرابلس، وجميعُها بادرةٌ تُحرّك البصائر والضمائر على ظاهرة دينامية ناشطة تعمل على إنقاذ الذاكرة.
فكيف يُمكن إهمالُ مَحطّةٍ يَجثم فيها قطاران أَلْمانيان مصنوعان سنة 1885، وأربعةٌ سنة 1901، ومعالِمُ وأغراضٌ وبضائعُ ينخرها الصدأُ في مَحطة كانت نِهاية خط قطار الشرق السريع، وتُكمل العام المقبل مئةَ عامٍ على إنشائها سنة 1911، ونصفَ قرنٍ على ربطها سنة 1945 بِمحطة مار مخايل في بيروت ومنها تكمل القطارات رابطةً طرابلس بِحيفا في فلسطين؟
كيف يُمكن إهمالُ مَحطّةٍ كانت في مطلع القرن العشرين تصل طرابلس بپاريس فأوروپا، وتنقل البضائع الى محطة حمص ومنها الى دول الخليج فالعراق فإيران، وربطَت عبر سِكَّتِها لبنانَ بالدول العربية فالدولِ الأوروپية، وكان الفضل في تمويل إنشائها لأهل طرابلس الذين عوّضوا بها عن تَهميش مدينتهم لدى تأسيس الخط الحديدي بين بيروت ودمشق سنة 1901؟
وكانت مهمّةً بادرةُ جامعيين وضعوا مشروع تخرُّجهم متحفاً يجمع المقطورات والقاطرات والمرْكَبات والموجودات، على أرض مَحطَّةٍ كان لوجودها قربَ مرفإ طرابلس دورٌ اقتصاديٌّ حيوي ذو فرص عملٍ وفيرةٍ لأهل طرابلس وسكّانها، ما نَهض بالمدينة الى نُمُوٍّ وازدهار جديرين بطرابلسنا العريقة.
هذه المحطة الجاثِمةُ مبانيها مُهدَّمَةً في صمت الإهمال، مع لوحةٍ على مدخلها تُنبئ بإعادة تأهيلها سنة 2001 ومرَّت تسعُ سنواتٍ ولم يتحرَّك فيها أيُّ تأهيل، المحطة التي، بشهادة قدامى عمالها، كانت لا تَهدأ أربعاً وعشرين ساعةً في اليوم، وصفاراتُ قطاراتِها تندلع في سماء المدينة، وركّابُها ينزلون أياماً وليالي مُحرّكين دورة اقتصادية فاعلة، وهم بلغوا فترتئذٍ وفق إحصاءات 1974 نحو 80 ألفاً، وحرّكت 55828 طناً من البضائع، هذه المحطة التاريخية يسعى الخيِّرون اليوم في جمعية أصدقائها أن تصنّفها الدولة مَعْلَماً سياحياً، وموئلاً ثقافياً بين المباني الأثرية، شهادَةً على مرحلةٍ مباركةٍ من تاريخ لبنان الحديث.
وإصدارُ وزارة السياحة روزنامةً عن مَحطّات القطار في لبنان، باثنتي عَشْرَة صفحةً، على صفحة كلِّ شهرٍ منها صورةٌ لِمحطة، بادرةٌ نبيلةٌ من الوزارة، تَحفظ لأجيالنا الجديدة ذكرى وذاكرة: كي لا تفوتَنا الذِّكرى إن فاتنا القطار، وكي لا تتوقَّفَ الذاكرة إن تَوَقَّفَت عجلاتُ المحطّة.