الحلقة 886: التضحية بالاحتفال بين الصوم والكرنڤال
الأحد 7 آذار 2010
وسط الصوم الذي يلفّ المؤمنين هذه الأيام، يجدُر التوقُّفُ عند مفهومه الروحاني والتاريخي، بإزاء ما يسبقه من كرنڤالات تجعله امتناعاً عن بَهْرَجة، وإِشاحةً عن لذائذ، فيغدو فِعْلُ الصوم إماتةَ الجسد بعد إمتاعه بما يشتهيه.
فعَلى مقربة من الصوم، تتاحُ كرنڤالاتٌ عدة في احتفالات متعددة، منها كرنڤال “الزمبو” (كالذي شهدته طرابلس قبل أيام في الأُسبوع الأول من الصوم الكبير، وهو صورة مصغّرة عن كرنڤال ريو دي جانيرو البرازيلي، تعبيراً عن الانعتاق من القيود استعداداً لموسم الصوم)، ومنها في فرنسا كرنڤال نيس (Nice) (وهو يعود الى القرن الثالث عشر)، وكرنڤال ليمو (Limoux) (الذي يمتد كل أحد من كانون الثاني حتى منتصف الصوم، وهو أطول كرنڤال من نوعه في العالم).
لفظة “كرنڤال” لاتينيةٌ في الأساس، هي Carne Levare ومعناها “الامتناع عن اللحم”، وتَمتدُّ ظاهرتُها من عيد الغطاس حتى أربعاء الرماد، تتخلّلها احتفالاتُ رقصٍ وطعام وفرح وإمتاعٍ اجتماعي من كل نوع، حتى إذا حَلّ زمنُ الصوم كان قهرُ الجسد بالامتناع والإشاحة عن كل نوع من الإمتاع.
هكذا يَجيء الصومُ نقيضَ الكرنڤال، وأكلُ اللحم نقيضَ الامتناع عن أكل اللحم، ومَهْرَجَةُ الْمِتَع نقيضَ قهر الجسد، والمبالغةُ في الإشباع والإمتاع نقيضَ الانكفاء والانطواء، وإشباعُ الجسد نقيضَ إشباع النفس. وبين ثلثاء المرفع وخميس السكارى وفجر القيامة، مساحةٌ روحانيةٌ تنكفئ فيها الروح الى خالقها، وتتطهَّر النفس من أدران الجسد، ويقترب المؤمن من بَهاء الله.
وإذا الصوم الكبير، رمزُ انسحاب السيد المسيح أربعين يوماً الى خلوة بعيدة صائماً مبتهلاً الى الله أبيه، فهو رمزُ المؤمنين في الانسحابِ من بَهرجات الدنيا، والغوصِ عميقاً في التطهُّر بالصلاة والتأمل. وإذا الكرنڤالُ إرضاءُ الجسد بإطعامِه وإشباعِ رغباته، فالصومُ إرضاءُ الروح بِرَفْعِها الى التأمُّل والتطهُّر.
هذا الأمر يرقى الى تقاليدَ قديمةٍ كان الانسان يحتفل فيها بيقظة روح الطبيعة رامزاً الى صراع الربيع مع الشتاء، بين مدار الشمس الشتوي واعتدال الشمس الربيعي. من هنا جذورُ احتفالاتٍ صاخبة ترمز الى هذا الصراعِ في الطبيعة: صراعِ جنون الشتاء مع اعتدال الربيع، صراعِ النور مع الظلمة، صراعِ النفس الدائمة الباقية مع الجسد الزائل الفاني.
وفي ذلك، يقترب الصوم الكبير من صيام رمضان، في الانعطاف الى تطهير الروح والنفْس بإزاء ما عَلِقَ بالجسد من أدران الحياة الدُّنيا.
وإذا الكرنڤالُ الْمَرْفَعيُّ رمزُ العيد بكل ما يَضُمُّه العيد من مساحاتِ هوى، فالصومُ رمز التضحية بكل ما تَضُمُّه التضحية من مساحات امتناعٍ عن الهوى بُلُوغاً الى شفافية الروح، وهو ما يبتغيه المؤمنون في كل دين، والصوفيون في كل تراويح، والإنسانُ في كل موقعٍ وطقْسٍ وزَمَن، خَلاصاً من زواليّة الأرض، بلوغاً الى دواميّة السماء.
وهنا جوهرُ الحبِّ الكبير، جوهرُ الامتناعِ عن كلّ هَوَى وسِوَى، والانصرافُ الى ما سوى الوجهِ الواحدِ الوحيدِ لا وجهَ إلاّه، ولا مدارَ للعاشق في انخطاف عشْقِه إلا وَحْدَهُ… وَحْدهُ: مدارُ المعشوق.