882: ثقافة الموسيقى بين المتعة والصدمة

الحلقة 882: ثقافة المُوسيقى بين المتعة والصدمة
الأربعاء 10 شباط 2010

إذا الموسيقى لغةٌ عالميةٌ تتواصل بها الشعوب، مقبولةً لدى معظمها لا الى جدال، فالأغنيةُ، بنتُ الموسيقى، ليست كذلك في المطلق. والأمر هنا لا يقتصر على الذوق في استحسان هذه الأغنية أو تلك، بل يتعدّاه الى المنع والزجر وحتى الاعتداء اعتراضاً: رسمياً أحياناً (في منع أغنيةٍ من البث)، أو شعبياً (في حظر أغنيةٍ لسببٍ هو غالباً عاطفيٌّ ذو هوىً وأحياناً تَفَرُّديٌّ ذو انفعال).
من ذلك مثلاً ما نقلَتْه جريدة “نيويورك تايمز” مطلع هذا الأُسبوع عن الخطر الحاصل مع أغنية فرانك سيناترا “على طريقتي” (My Way) لدى أدائها في الفيليپّين داخل حانات “الكارا أوكي” (فنّ غناءٍ يابانِيٌّ يتشارك فيه رواد الحانة بأغنيات يؤدونها جماعياً على موسيقى مسجلة فيما كلماتها تمر أمامهم على شاشة كبيرة).
دافع هذا الخطر في الفيليپّين أنّ حوادثَ مأْساويةً جرت في العقد الأخير ذهب ضحيَّتَها نحو عشرة أشخاص هوجموا حتى القتل لدى أدائهم أغنية “على طريقتي” (My Way)، حصيلةَ موجةٍ في مجتمع الفيليپّين تصاعدت ضدّ هذه الأغنية بحجة أن كلماتها (من كتابة پول أَنكا) تولّد شعور التعالي لدى المغني، والتكَبُّر واللامبالاة بما يقوله المجتمع أو به يؤمن، وهو تالياً يقوم بما به يقوم، معتبراً أنه حـرٌّ في التصرف على طريقته غير عابئٍ بما يمليه عليه المجتمع من قيم ومبادئ. هكذا رفض المجتمع الفيليپّيني هذه الأغنية، ولأنه- في بعضه – عنيفٌ حتى القتل، أخذ يتهجَّم على مؤدِّي هذه الأغنية، حتى قتلهم أحياناً.
هذه الظاهرة تدل سوسيولوجياً على أن اقتبالَ الأغنية أو رفضَها يختلف بحسب الأمكنة، فهي هنا مقبولة لأنها في سياق اجتماعي مقبول، وهي هناك مرفوضةٌ إذ يفهمونها على غير مقصدها، أو يفهمونها على هواهم أو نواياهم، أو يَجدونها تتنافى مع تقاليد مُجتمعهم المتوارَثَة جيلاً عن جيل أو سمةً عن سمة، فيفهمونها وفق ظروفهم الاجتماعية وثقافتهم الموروثة وتفسيراتهم الذاتية.
هذا الأمر يأخُذُنا الى صدمة الثقافة في مُجتمَعٍ لا يقتبل هواءً مُقبلاً عليه، من موسيقى، من أغنية، من قصيدة، من ظاهرة فنية تَدهَمُهُ، تفاجِئُهُ، فلا يفهمها على ما هي من وطن منشَإِها، ويرفضها لأنها تتعارض مع موروثاته الاجتماعية أو الدينية أو الإيديولوجية، ويبلغ به الرفض الى أقصى العنف أحياناً.
إنه التأثير المعاكس، بإزاء اشتهار أغنيةٍ ورواجها، حين تكون كلماتُها إيجابيةَ المنحى لكنها تبلغ مَجتمعاتٍ معينةً سلبيةَ المنحى بحسب رؤية هذه المجتمعات وموروثاتها الشعبية وموجات الاقتبال أو الرفض فيها.
هذه هي الترجمة الثقافية لبعض الظاهرات الفنية، وهي ما سرى اعتبارها “صدمة الثقافة” التي تتنوَّع انفعالاتُها بين ثقافة موسيقية، أو ثقافة أدبية، أو ثقافة فنية، أو ثقافة اجتماعية موروثة.
وما يولِّده الفن من متعة الإبداع في مُجتمعٍ، قد ينقلب سلعة قاتلة في مُجتمع آخر.
وهذا ما يفرِّق، سوسيولوجياً، بين مُجتمَع متقدِّمٍ متطور، ومُجتمعٍ نامٍ على طريق التقدُّم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*