الحلقة 869: المعايدات المظفَّرة في الكتابات المشفَّرة
الأحد 27 كانون الأول 2009
كان من عاداتنا، مع اقترابنا من ليلة العام الجديد، أن نتلقّى بالبريد بطاقاتِ معايدة، ورسائلَ تهنئة، عابقةً بعباراتٍ من الودّ والمحبة والدفْء والصداقة، مسترسلةٍ بالإفاضة شعوراً ومشاعرَ وبعضَ شعائرِ حبٍّ وأمنيات.
ومع بزوغ التكنولوجيا وتطوُّر أدواتها وآلاتها وأجهزتها، راحت تتضاءل بطاقات البريد لتقتصر على رسائل قصيرة في هاتف خلوي، أو رسالة مُؤَمْيَلَة (e-mail) في بريد إلكتروني.
ولكان الأمرُ طبيعياً أو شبهَ طبيعي، لو لم تكن المعايدات والمبادلات باتت مقتصرة على كلمات ضئيلة، تتخلَّلُها أحرف تُغْني عن كلمات. فبعضُ الحروف اللاتينية معناها كلُّه في لفظِها، ما يوفِّرُ على المرسل كتابة الكلمة بأحرفها الكاملة. وحين يتخاطب اثنان حول أمر يستوجب رداً أو جواباً، بات أحدهما يقول للآخر “أَبْرِق لي خلوياً” (text me) ما يَفهم منه الآخَر أن يُكَبْسِلَ في أحرفٍ قليلة وبضعِ كلماتٍ كلَّ ما يريد الإجابة عنه أو الردّ عليه.
وتدرج اليوم خلَوياً استعمالاتُ أحرف لاتينية للدلالة على أحرف عربية، فيبتعد المرسل عن اللغة الأم واللغة الأخرى معاً.
ضَغْطُ الكلمات هذا الى قلّةٍ منها وحروف، يدخل في لاوعي الناس فيخرّب لهم تدريجاً ما تعلّموه من استخدام اللغة وكتابتها كتابةً لغويةً وصرفيةً سليمة، ويأخذهم الى أنماط من لغةٍ هجينة لا علاقة لها باللغة ولا بقواعدها ولا باستخداماتها، ما ينعكس حتماً ويقيناً على سلامة استخدامهم إياها كاملةً في رسائلهم وأبحاثهم واستعمالاتهم إياها في شكلها الكامل.
والأخطر من ذلك: اعتيادُ الجيل الجديد من أبنائنا على هذه الاختزالات الهجينة التي تَحُول دون إتقانهم اللغةَ الأصلية، وتُخَرِّجهم من مدارسهم والجامعات أُمِّيِّين في لغتهم الأم وفي اللغات الأجنبية معاً.
قبل سنوات، كان في المدارس درسٌ في الخط، غيرُ درس اللغة، وكان التلامذة يتبارون في الخط الأجمل، مع جوائز لِمَن خطُّه أنيقٌ وقويم، وكانت تنقصُ علاماتٌ من حصة التلميذ إن كان خطُّه سيّئاً في فروضه والمسابقات. أما اليوم فباتت الشطارة لدى من يَختزل أكثر ويَختصر أكثر ويُوجز أكثر في كتابة رسالة خلوية مشفَّرة مشوَّهة اللغة بكلمات وحروف ورسوم ورموز ونُجوم ونقاط وعلامات تختصر فيها رداً أو جواباً أو تعجباً أو قَبولاً باسماً أو رفضاً غَضوباً.
خطر هذا الزحف صوب الإيجاز أنه يتغلغل في مُجتمع ينحو صوب الاختصار في الكتابة، وبعدها في التعبير، وبعدها في التفكير، وقد يؤول به الأمر الى إيجاز في التعامل، فَتَتَفَكَّك الروابط الاجتماعية فيه، ويصبح مُجتمعاً آلياً جامداً جافاً يتحرَّك برموزٍ وعلامات، وينتفي بين أبنائه حنانُ اللغة الذي هو في أَساس كلّ علاقة بشرية وإنسانية.