الحلقة 848 : الحكومة الجديدة على إيقاع الجاز
الأربعاء 14 تشرين الأول 2009
انتهى الأحد الماضي مهرجانُ الجاز الذي استقطب لأسبوعٍ كاملٍ جمهوراً كثيفاً تابع في وسط بيروت أمسياتِ الجاز الممتعة، هذا الفن الوافد إلينا من بعيد لكنه قريبٌ من جمهور شبابنا الذين يتابعونه ويعرفونه جيداً أعلاماً وأعمالاً.
والجاز فن موسيقي انطلق مطلع القرن الماضي من جذور أفريقية أميركية، مزيجاً من تقاليد موسيقية شعبية أفريقية وأوروبية معاً. وهو يقوم على النقاط الزرق والارتجال والإيقاعات المتعددة وتأخير النبر واختصار النوطات في الأغنية الواحدة.
سياق الجاز أن الآلات فيه متناغمة تماماً، منسجمة كلياً، متحدة الأداء، لا نسمع بينها آلة دون أخرى إلاّ في سولوات معيّنةٍ بعضُها ارتجالٌ وبعضُها الآخر مكتوب. وعلامة آلاته أنّ لكلّ آلةٍ شخصيتَها (كالساكسوفون والتشيلو والغيتار…)، ولها وقعُها الخاص ونغَمُها الخاص وهويّتها الخاصة، لكنها تعمل معاً، تعزف معاً، تتآلف معاً، لتشكّلَ مناخاً موسيقياً موحَّداً لا تنفُرُ فيه آلةٌ دون أُخرى، ولا تشاكس فيه آلةٌ على أخرى، ولا تنفرِد فيه آلة عن أخرى، وعند بروز آلةٍ في سولو، تُصغي لها شقيقاتُها الآلات حتى تعود فتنضمّ السوليست الى المجموعة ويعودَ التآلف والتشكيل الواحد للميلوديا الواحدة.
وحتى في لحظات الارتجال غير المكتوب في التوزيع الموسيقي، يبقى هذا الارتجالُ ضمن سياق المناخ العام للميلوديا العامة، فلا يفسد الارتجالُ السياق العام. وهكذا تتنوّع الآلات ونغماتُها وتتعدّد، لتؤدّي جميعها في النهاية الى موسيقى متناغمة موحدة الإيقاع. فبين الجاز البرازيلي والجاز الأميركي اللاتيني والجاز الأفريقي الكوبي وجاز الروك والبلوز والهيپ هوپ، تتعدد الآلات والإيقاعات لكنها تتآلف في عمل واحد يخلق مناخاً جميلاً يوصل في النهاية الى وحدة تأليف ووحدة تشكيل ووحدة نتيجة.
الى أين من هنا؟ الى ما نعيشه منذ أسابيع مطّاطة بطيئة مُملّة في استشارات نيابية لتُوْدي الى تشكيل الحكومة العتيدة وإخراجها من عنق التنين. فلماذا لا تكون الاستشارات على أنغام الجاز المتآلفة، المتعدّدة ضمن الوحدة، المستقلّة ضمن الاتحاد، الإحادية الشخصية ضمن جماعية المصلحة الوطنية التي يتشدّق بها الجميع ولا يعمل لها أحد عملياً وعملانياً لتسهيل إخراج الوليد من بطن الحوت.
متى الجاز السياسي عندنا يجعل من الحكومة العتيدة وزراءَ لكلٍّ شخصيَّتُهُ إنما للجميع تناغم واحد؟ لا نطلب أن نكون توتاليتاريين ولا جماعة 99،99%. ولا نطلب أن يلغي أحدٌ شخصيته، ولا أن يلغي أحدٌ شخصية أحد ولا هوية أحد ولا انتماءات أحد. نطلب أن يكون كل معنيٍّ تماماً كآلة الجاز التي تعزف لوحدها بشخصيتها المستقلّة لكنّها تتناغم مع شقيقاتها في سياق موسيقي ميلودي واحد خدمةً لعمل واحد يوصل الجمهور الى مذاق مريح. فهل المشكّلون والمستشكلون والتشكيليون الحكوميون يعملون لعمل واحد يوصل اللبنانيين الى مذاق مريح؟
فليتّعظ السياسيون من الجاز الذي لا يفسده تعدد الآلات ولا هوية كل آلة مغايرة عن سواها، فالمهم في النهاية وحدة الإيقاع، ووحدة الأداء، ووحدة الإيصال في تناغم مريح، لأن نوطة واحدة خارج السياق تُفسد الإيقاع كله الى نشاز ونفور.
وهـذا ما لم نجد إلاه حتى اليوم في مسلسل الاستشارات النيابية لتشكيل حكومةٍ لن ينقذَنا من تباطُئها إلاّ تشكيلُها على … إيقاع الجاز.