الحلقة 844: أسبوعٌ في المطار: يوميات هيثرو
الأربعاء 30 أيلول 2009
ألقُ الأدب أن يكون ابن الحياة النابضة، لا وليدَ الكتابة الباردة البرجعاجيّة التنظيريّة.
وهو ما جرى مؤخَّراً في الكتاب الذي استوقف المئات هذا الأسبوع والأسبوع الماضي في الجناح الخامس من مطار هيثرو، أحدِ أكثر مطارات العالم اكتظاظاً، تَجمهروا صفاً طويلاً للحصول على نسختهم المجانية من أصل 10000 نسخة أهداها الناشر البريطاني “پْرُوفايل” للمسافرين من كتاب “أسبوع في المطار: يوميات هيثرو” للكاتب السويسري آلان دو بوتون، المولود في زوريخ ويعيش حالياً في ضاحية لندن الغربية.
وكان الكاتب قام بِهذه المغامرة الأدبيّة تنفيذاً لفكرةِ مدير العلاقات العامة في مطار هيثرو دان غلوڤر أن يَجعل المطار واحةَ متعةٍ للمارين فيه عبوراً، حين يرون كاتباً شعبياً معروفاً جالساً الى منصةٍ عاليةٍ يراقب ويكتب ويُحاور المارة. ورأْيُ غلوڤر أنْ لو أصدر المطار مطويةً دعائيةً عن المطار وجَماله وخدماته، لطوى الناس المطويَّة ولَمَا قرأُوها، لأنّهم سيعتبرونَها مجرّد تسويقٍ تِجاريٍّ سياحيٍّ دعائيّ. لذا اقترح هذه الفكرة كي يَخلق بين المسافرين إلفةَ حوارٍ حول كاتبٍ معروفٍ فيصبحَ مرورُهم في مطار هيثرو متعةً تترك في بالِهم ذكرىً جميلةً لا تُمحى، خصوصاً حين يتحدّثون الى الكاتب فيذكُرُهم في كتابه، ولا يعودُ اكتظاظُ المطار مصدَرَ تأفُّفٍ من الركّاب أو سأْمٍ أو غضَب. وبذلك، حسب رأي غلوڤر، لا يعودُ الناس يكتفون بالقول إنّ مطار هيثرو كبيرٌ ونظيفٌ ومُحْكَمُ الأَمن والأمان، بل يَرَون فيه ما لا يعاينونه في مطار آخر.
وهكذا أمضى الكاتب المشهور آلان دو بوتون أُسبوعاً كاملاً في بَهو المطار، جالساً الى كومبيوتْرِهِ المحمول يكتبُ ما يرى ويعاينُ ويشاهدُ ويستنتجُ ويسألُ المارّة كباراً وصغاراً، مسافرين وعمالاً، طيارين وحمالين، وكلُّ ما يكتُبُهُ مباشرةً أمامه يَظهر وراءه على شاشةٍ كبرى، والى جانب المنصة لافتةٌ مكتوبٌ عليها: “الكاتب آلان دو بوتون يُمضي أسبوعاً في هيثرو كاتباً مقيماً في المطار”.
لذا كان يتوقّف الناس أمامه، يتابعون كتاباته على الشاشة الكبرى، يُجيبون عن أسئلته، يعطون آراءهم في ما يسألهم إياه، يُدْلُون بِملاحظاتهم ومقترحاتِهم، وهو يُدوِّن ويُدوِّن ولا يتوقَّف عن كتابة. وكان شرطه لإدارة المطار ألاّ يطّلع أحد على نصه، بل يكتبه ويُرسلُه مباشرةً الى الناشر، رافضاً أيةَ رقابةٍ على كتابته، ناشراً كلَّ ما يشاهد بدون استثناء، ويكتب من دون أيِّ تحفُّظ.
بعد نجاح هذه التجربة، تَمنَّى آلان دو بوتون أن يُستَدعى ليَكتُبَ كتاباً مُماثِلاً، لا في مطارٍ آخَرَ هذه المرة بل في مَحطةِ طاقةٍ نووية، ليَخرُج الى الناس بصفحةٍ أُخرى من صفحات الأدب الحيّ.
ألقُ الأدب أن يكونَ ابنَ الحياة النابضة، لا وليدَ الكتابةِ الباردة البرجعاجية التنظيرية.
هكذا يكونُ الكتابُ ابنَ الحياة، والكاتبُ مرآةَ الحياة، وهكذا تكتملُ الحياةُ نابضةً، حيّةً في صفحات كتاب.