الحلقة 818 : من مُوَاطن الانتخابات إلى انتخابات المواطنية
الأربعاء 1 تَمّوز 2009
خرج من المطار شَغوفاً بالوصول إلى بيته في شمال لبنان، بعد غيابٍ عنه تَمطّى سنواتٍ في أستراليا. وكان مستعداً لاقتبال كل ما سمعه من المغتربين هناك عن زحمة السير ومُخالفاته وسائقيه، وسلبيات أخرى لم يُعرها اهتماماً لشدة شوقه إلى أرضه الأُم، مستعداً لتفهُّم كلّ سلبية ووضعها في خانتها التبريرية.
غير أنّ ما لم يفهمه: أن يرى على بعض الحيطان والشجر والأعمدة والجسور والسطوح ونواصي الطرقات صوراً كبيرةً أو وسطى أو صغيرة لمرشحين على الانتخابات فاز بعضهم ولم يفز البعض الآخر، لا تزال معلّقة كما لو الانتخابات لم تحصل بعد.
ومرّ في باله كيف أن قانون حملة الانتخابات في أستراليا يتيح للمرشح وضع صوره في أماكن خاصة تحددها الدولة، وعليه، صباح اليوم التالي نتائج الانتخابات، أن ينْزع على حسابه الخاص جميع صوره من جميع الأماكن وإلاّ تعرّض لمخالفة ودفع غرامة مالية موجعة أَياً يكن سببُ استمرار تعليق الصورة.
لم يَجد في هذه الظاهرة أمراً سلبياً بقدْر ما وجد فيه غياباً للمواطنية التي لا تزال في لبنان مرهونة لشخص السياسي، مرصودةً على هذا الزعيم أو ذاك، أياً يكن توجُّهُهُ في هذه الدورة ولو كان عكسَ توجُّهِهِ في الدورة السابقة، فالمهم ماذا يريد “البك” لا ماذا يريد الوطن.
قد لا يكون استمرار تعليق بعض الصور إيعازاً من أصحاب الصور، وقد يكون متعمَّداً نكاية من الذين فاز مرشَحهم كي يغيظوا مُحيطهم مِمّن مرشَّحُهم لم يفُز. ليس هنا الموضوع، بل الشاهد أن المواطنين لا يزالون في لبنان (وفي معظم هذا الشرق العربي) منقادين إلى الشخص لا إلى الوطن، إلى الزعيم لا إلى الإدارة، إلى الفردية لا إلى الجماعة.
لهذا يمكن اختزال لبنان بسياسيّين لا يتعدّون عدد أصابع اليدين، والباقون توابع ولواحق لا دور لهم إلا رفع اليد عند التصويت في مجلس النواب وفق ما يريد هذا أو ذاك من زعيمهم في المجلس. بينما في دول كبرى كالولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا أو أية دولة أوروبية، يذهب الولاءُ إلى الوطن، والاهتمامُ إلى الإدارة السياسية الحاكمة، أياً يكن الفائز فيها وأياً يكن الشخص، فالسياسي هناك “خادم عام” في خدمة الدولة وليست الدولة خادمة عنده وعند مَحاسيبه وأزلامه الذين يكون وظّفهم في دوائر الدولة ولو على حساب تُخمة الموظفين، ولو على حساب الأهلية والجدارة والاستحقاق.
اليوم، أمام مَجلس نيابي جديد (بقُدمائه وجُدُده)، وعشيةَ تشكيل حكومة جديدة، ووسْط ما يتناهى إلى أسماعنا من وُعود نواب متحمّسين للمرحلة المقبلة، ومستوزرين يكيلون وعوداً بمرحلة جديدة من الوفاق الوطني والعمل لأجل المواطن في لبنان، لسنا كثيري التفاؤل بتغيير جذري لكننا نفتح كوّةً في عتمة المألوف لنرى منها أملاً نعلِّقه على الجدد في البرلمان وفي الحكومة المقبلة، علّنا نرى خطاً جديداً من السياسة في لبنان، يبتعد عن العشائرية والمزارعية والقبائلية والمحسوباتية والأزلامية والأغنامية، ويتَّجه إلى بناء جيل لبناني على أسس الانتماء إلى الوطن لا إلى زعماء الوطن، وانتماء الزعماء إلى إدارة الدولة لا إلى قالب الجبنة فيها.
وما سوى هكذا يدخل لبنان عصر الغد، ويخلع عنه أمساً لا تزال على أطرافه معلقةً صورُ المرشحين ولو بعد أسابيع من انتهاء موعد الانتخابات.