الحلقة 775: الياس أبو شبكة يعود الى بيته في الزوق
الأربعاء 28 كانون الثاني 2009
في مثل هذا اليوم (الأربعاء)، قبل اثنين وستين عاماً، كانت تُودِّعُكَ الزُّوق، وأنتَ في نعشِكَ الأبيض، وفي شباب ربيعِكَ الثالث والأربعين، تتهادى على أكتاف شباب الزُّوق يَحملونكَ من بيتِك الى الضريح المستعار (الذي لا يزال مستعاراً حتى اليوم)، والزوقُ حزينةٌ يومها، تُصغي الى دقّات الجرس الحزين في كنيسة سيَّدة المعونات، كأنما تُردِّد قولَكَ في “غلواء”:
“وكانت زوق ميكائيل تصغي إلى هَمس النياسم في الحقولِ”
وإذا كنتَ في ترابٍ مستعارٍ من الزوق، فإن بيتَك الغالي عليكَ، عادَ إليكَ، ولم يعُد حدسُكَ موجِعاً حين قلتَ:
“يا بلادي كفاكِ هزءاً بنفْسي إن نفسي حُسامُكِ المطرورُ
لا تقولي قد أحرقَتْـها البلايا كلُّ نفْسٍ لَم تَحترقْ لا تنيرُ”
ذلك أنْ عادَ إليكَ البيتُ الذي أمضيتَ فيه كلَّ حياتِك، وكنتَ ترفض أن تنامَ ليلةً واحدةً خارجَهُ وخارجَ الزوق، حتى أنكَ – ذاتَ ليلة ماطرةٍ – جئتَ مشياً من بيروت لأنك لم تَجِد سيارةً تُقِلُّكَ الى الزوق، كي لا تنامَ خارجَ غرفتكَ التي ملأْتَها كتاباتٍ من قصائدكَ على الحيطان، بقيَت سنواتٍ بعد غيابكَ، الى أن جاء قَراصنةُ الْحَرب في سنوات الْجَمْر، واحتلُّوا بيتكَ، ومَحَوا كلَّ أثرٍ لكتاباتك على الحيطان.
ها بيتُك اليومَ عاد إليكَ، ولكن لا بدون كهرباء، وكنْتَ تعيشُ فيه على ضوء قنديلٍ شحيحٍ زادَ من رومانسية عشقكَ الكبير الذي جعلَكَ تقول:
“أَرجِع إلينا الصاجْ والجرنَ والمهباجْ وخِصْبَنا في الربى ونورَنا في السراجْ
واسترجِعِ الكهرَبا وكاذباتِ الغنى يا دهرُ أرجع لنا مـا كانْ في لبنانْ”
ولكنْ لَم يَخِبْ (ولن يَخيب) إيمانُكَ بلبنانِكَ الذي قُلتَ فيه:
“لبنانُ، أوَّلُكَ الدُّنيا وآخرُكَ الدنيا وبَعـدكَ لا أُفْقٌ ولا شُهُبُ”
بلى: كرَّمَكَ لبنانُ كما يليقُ بالشعراء الكبار، وأَعادَ إليكَ البيتَ بَهيّاً، ملْؤُه الحياة وملؤُه أنتَ. وقبالةَ البيت تِمثالُكَ الذي هو أفضل تَجسيدٍ لقولِكَ أنتَ في تمثال فوزي معلوف:
“لَرُبَّ حَيٍّ غدا في قومهِ حجراً وَرُبَّ ميتٍ غدا حياً به الحجرُ”
فتعالَ اليوم في ذكرى غيابكَ مُمتلئَ الحضور، واحضَر إلى بيتِك الذي صار مُتحفاً، وادخُلْ إليه كي تَراك فيه: مَخطوطاتٍ وصوراً وكتُباً، وترى سريرَك عادَ هو نفسُه، وخزانتَك عادت هي نفسُها، وأجنحةً معجوقةً بك، وترى فيه غلواك وليلاك، وقصائدَكَ منسوجةً على الستائر، وغرفَ البيت تضُجُّ بالحياة في أناقةٍ كأجمل المتاحف العالَمية لكبار الشعراء في العالم.
ها هي ذي كرَّمتْكَ الزوقُ، بلدةً وبلديةً، كما يليقُ ببلدتِكَ الحبيبة التي كانت ضيعةً على خصر الخليج فباتت بلدةً عصريةً على جبين لبنان بدون أن تَخلعَ عنها تراثَها العريق، وأنتَ وجهٌ مشرقٌ من هذا التراث الزُّوقيّ واللبنانيّ والعربيّ الواسع.
طوبى للشاعر الذي يَغيبُ فيجدُ بعدَه من يَحتضِنُ غيابَه.
الياس أبو شبكة: الْمَجدُ للشعر… الْمَجدُ للشعراء… والْمَجدُ دائماً لـلُبنان الشاعر.