770: استثمار الوقت بين النّحر والبَحر

الحلقة 770: استثمار الوقت بين النَّحر والبَحر
الأحد 11 كانون الثاني 2009

مَرَّ في هذا البرنامج مراراً حديثي عن مشاهداتي في أسفاري حين أرى الناسَ يقرأُون، في الباص يقرأُون، في القطار، في مَحطة المترو، في الطائرة، في المقهى، في انتظار الباص والقطار، فليست تُفلتُ منهم دقيقةٌ من الوقت لا يَملأُونَها بالمعرفة.
قلتُ “يَملأُونَها” والأصحّ أن أقول “يُخصِبونَها” (مستعيناً بالالمانية التي الوقتُ فيها مؤنثٌ، وتالياً يَصُحُّ إخصابُه).
من هُنا قيمةُ الوقت لدى بعض المجتمعات، واحترامُه وإخصابُه بالإنتاج والمعرفة والتثقُّف، والوصولُ على الوقت، ومعرفةُ استخدامِ الوقت ومَلؤُه بكل منتِجٍ مفيد. ومن هنا الدقَّةُ التي عند تلك المجتمعات تُنتِج جِدِّيَّةً وإنْجازات، رغم ما عندها من ضغطٍ في الوقت ناجمٍ عن العمل والاستلحاق والمسافات الطويلة.
فأين نَحن من كلّ هذا، والبعضُ عندنا يُصرّح أنْ ليس عنده ما يعمله فـ”يُضَيّع” الوقت هنا أو هنا، أو يعمل كذا أو كذا كي “يَقتُلَ” الوقت، أو يُمضي “الوقت الضائع” في انتظارٍ ما، أو يتسلّى بـ”قتل” الوقت أو “إضاعته”. ومن العبارات الفارغة أيضاً عبارةُ “وقت الفراغ”. ما أَرعَبَ هذه الكلمة!! “وقت الفراغ”؟ وهل يُمكن أن يَمُرَّ في العمر “وقتُ فراغٍ” لا يقوم فيه الإنسان بأي عمل؟ هل من وقتٍ لـ”إضاعة” الوقت؟ وهل من يُعيد العمر إلى الوراء كي يُعوِّض الوقت الذي ضاع؟ لذا أقول دائماً أنْ “لا وقت عندي لِمن عندهم وقت”، أي لِمن عندهم وقتٌ يقتلونه بالفراغ اللامُجدي واللامُنتج واللاخصيب.
ولعلّ من “أقتَل” نتائج الاستهانة بالوقت (وخصوصاً بوقت الآخرين): عدمُ احترام الوقت بالوصول المتأخِّر، أو بعدم احتساب الوقت لبلوغ موعد، أو الاسترخاء إلى “وقت ضائعٍ مُستقطَع” يَتَسَلْحَفُ لَزِجاً بين وقتين، بينما أهلُ بعض المجتمعات يَحترمون الوقت (وقتَهم ووقتَ الآخرين)، يربَحون الوقت، يَستثمرونه، يَستخدمونه، يُوظّفونه، يَزرعونه بِما يَحصدون منه لاحقاً إفادةً وثَمَراتِ عُمر. من هنا إمكان استبدال “وقت الفراغ” بـ”وقت حُرّ” يُمكن ملؤُه بالكثير من المُجدي والمفيد، فتكون لـ”الوقت الحر” حريةُ استغلال الوقت واستخدامه بِما يريح، من دون أن يَقتُل مَجاناً دقائقَ عمرٍ لن تتكرَّر ولن تعود.
وبين “نَحر” الوقت (ضائعاً مقتولاً بالفراغ العقيم) و”بَحر” الوقت (مع كلّ ما في البحر من خصوبةِ عملٍ ولآلئِ إنتاجٍ وجواهرِ معرفةٍ وكنوزِ ثقافة)، ينتصب الفرق ناشباً بِحقيقته الصافعة: بين مُجتمعٍ يُضَيِّعُ الوقت بإفراغه من امتلائه الخصيب، ومُجتمعٍ يَربَحُ الوقتَ فيُحسنُ إدارته ويُخصِبُ فراغَه في مَلْئِهِ بِما يَجعلُهُ شعباً حيّاً مُنتجاً، بإزاء شعبٍ مستهلِكٍ عندَه كلُّ الوقت لإضاعةِ الوقت وقتلِهِ بالتنظير والتَّنْبَلَة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*