الحلقة 686: من هجرة الأدمغة إلى تهجير الرعايا
(الأربعاء 19 آذار 2008)
لم يعُد جديداً قولُنا إنّ أخطرَ ما مُنِيَ به لبنان ولا يزال يُمنى: هذا النَّزفُ المستمرُّ المتواصل في هجرة أبنائه، يتشظَّون في بلدان العالَم، فيبرعون هناك، ويستفيد منهم العالم، ويَخسرهم لبنان.
ولم يعد جديداً قلقُنا من هذا الجمود الحاصل، يُضيف فراغاً مُرعباً على الفراغ القاتل بسبب هجرة الأدمغة اللبنانية.
غير أنّ الجديد الآخذَ مقتلُه في التنامي: تَهجيرُ الرعايا من لبنان. وإذا كان الرعايا الأجانب يغادرون، بناءً على إيعاز دولتهم عبر سفارتِهم في بيروت، فيرحلون أو يتجنَّبون التجوُّل إلاّ حذراً واقتصاراً – وغالباً ما هم عناصر بشرية يفيد من خبراتِهم لبنان-، فالرعايا العرب، حين يوعَز إليهم بالمغادرة أو الحذر في التجوُّل أو يوعز إليهم منذ بلدانِهم ألاّ يأتوا إلى لبنان، لا يقتصر ذلك على انسحابِهم البشري وحسْب، أو على حذَرهم الشخصيّ وحسْب، بل ينسحب أيضاً على سحب إيداعاتِهم من مصارفنا، وودائعهم الثمينة من مصرف لبنان، وعلى وقف استثماراتهم في بلدنا، وعلى إيقاف مشاريعهم المصرفية أو العمرانية أو العقارية في ربوعنا، وعلى التحوُّل من تَمضية العطلات والأيام والأَسابيع في لبنان، إلى مكانٍ آخر، بلدٍ آخَر شقيقٍ أو صديقٍ أو سحيق، ويفرغ لبنان من هذا العصب الآخر الذي هو السياحة السياحية والسياحة الاستشفائية والسياحة العمرانية والسياحة الأثرية والتاريخية التي كان يغنى بها لبنان بفضل سياحه وزواره، وتتكاثر فرصُ العمل لشبابنا بفضل ما ينشئُ بعض هؤلاء الرعايا العرب من استثمارات أو مشاريع عمرانية وتِجارية وسياحية وخدماتية.
هذا الواقع الذي يعرفه السياسيون جيداً، ويعاينونه ولا يعانونه، يعايِنُهُ ويعانيه الشعب اللبناني الذي يتشدَّق السياسيون أنهم ينطقون باسمه ويعملون لأجله، وهم في معظمهم يعملون لِمصالحهم المناطقية ولِـپْوانتاجاتِهم الانتخابية ولِمقاعدهم النيابية ولِحقائبهم الوزارية، لا يرون أمامهم إلاّها، ولا يعملون إلاّ لأجلها، ولا يتناطحون إلاّ في سبيل مقعد هنا أو حقيبة هناك أو حكومة هنالك، بُنْيةً فوقيةً باتت بسببهم مهترئةً بعدما بسببهم اهترأت البقية الباقية من البنية التحتية.
الشعب يئنُّ، يَخاف، يهلع، يقلق، يهاجر، و… هُم لا يزالون في مقاعدهم، من متاريسهم، فوق منابرهم، أمام كاميرات التلفزيون، خلف ميكروفونات الإذاعات، آخذين راحتَهم وكلَّ وقتهم في التشاتُم والتصايح وتبادل التُّهم والشدّ بالمطالب مرةً سلّةً، ومرةً حزمةً، ومرةً برميلاً، ومرةً لائحة، حتى ليفرغ لبنان من سلاله وحزمه وبراميله ولوائحه، ولن يفرغوا هم من ابتكار كلِّ ما يهجّر شبابَنا وأدمغتهم وعقولهم، ومن استحداث آخر ابتكارات الأوضاع السياسية المتشنجة التي تُهجّر الرعايا، عربَهم والأجانب، حتى لن يعود في لبنان إلاّ أشباح “بيت بو سياسة” لوحدهم، ومبروكٌ عليهم عندها مقاتلةُ الأشباح.
يتعنترون، يتصايَحون، يكيدون ويتكايدون، ولا يعرفون أنهم دونكيشوتيون يُحاربون طواحين الهواء بسيوف من خشب، وما أتعس لبنان بطقم سياسي، خصمُه طواحين الهواء، وسيوفُهُ من خشب.