الحلقة 683: حدودُ المدخّنين بين حريّتهم وإزعاج الآخرين
(الأحد 9 آذار 2008)
اتَّهمَني بأنني مع التمييز ضدّ المدَخِّنين، وبأنني حاقدٌ ومقذِع، وبأنني أُحرّض الناس ضدّ بعضهم البعض، وبأنني أبحث عن راحتي على حساب راحة الآخرين.
وهذا الذي انْهال عليَّ بِجميع هذه التُّهَم، بعدما سمع الحلقة الماضية من هذا البرنامج نهار الأربعاء الماضي، صديقُ عمرٍ قريبٌ، بل من أدنى الأقربين بين أصدقائي. وأضاف بأنّ التدخين ضررُه ضئيلٌ أمام التلوُّث في الجوّ، وأمام تنشُّق ثاني أكسيد الكربون من عوادم السيارات، وأمام البيئة الملوّثة التي تحيط بنا.
قلت له إن هذا كله صحيح، لكنّ الضرر الذي لا يُمكننا تلافيه في الخارج، في الهواء الطلق، نَحتمله بِحذرٍ أقلَّ أو أكثر، بينما التدخين يَلْحَقُ بنا إلى الداخل أينما حللنا، إلى الغرف المقْفَلَة والصالات المقْفَلَة والسيارات المقْفَلَة والمكاتب المقْفَلَة والمطاعم المقْفَلَة، وهو سرطانٌ حافي القدمين، لا صوتَ له ولا شكل، يتقدّم منا خلسةً فلا نبدأُ نشعر به حتى يكونَ تغلغل فينا وتشبَّث بنا وقضى على كل خط رجعة وراءنا للعودة إلى الصحة والعافية، لأنه يكون اقتلع منا كلّ مناعة، ولن يعودَ ينفع فيه الندَم، ولا العلاجُ الكيميائي، ولا علاجُ الأشعة ولا المورفين.
وقلت له إن التدخين، في ذاته، سلوكٌ اجتماعيٌّ مُؤْذٍ وَقِح، لأن الشاربَ الخمرةَ، مثلاً، لا يؤذينا ولا يزعجنا ولو احتسى عشرات الكؤوس أمامنا أو حدَّنا أو قبالتنا أو حولنا أو في الغرفة نفسها أو إلى طاولة المطعم نفسها، فلماذا لا نتضايق منه، ولا نفرّ من حضوره، ولا نطلب منه أن يرحل عن طاولتنا أو غرفتنا أو أن يَحلّ عنا حيثما نكون معه؟ لماذا؟ لأنه يشرب خمرته لوحدِه، يتمتَّع بها لوحدِه أو تضرُّه لوحده، هذا شأنه، فلا نتوجّه إليه بلومٍ أو مضايقة. بينما المدخِّن، يدخِّن لوحده، يستمتع لوحده بِمَجّ سيجارته، ثم، عندما يفتح نيعه أو منخاره وينفخ النيكوتين المُنتِن في وجهنا، أو صحونِ طعامنا، أو الغرفةِ حيث نحن، يَجعلنا معه مدخّنين وينقل إلينا ضررَ النيكوتين كأننا ندخّن ونَحن لا ندخِّن. وهنا الفرقُ بين كأس الشراب والسيجارة، والفرقُ بين عدم اعتراضنا على مُحتسي الخمرة، واعتراضنا على مدخِّنٍ يرغمنا أن نشاركَه قرفَ النيكوتين وخطرَ السرطان وتلويثَ الجو وتلويثَ الثياب وإدخالَ تنين الموت إلى صدورنا ورئاتنا التي نسعى أن تبقى نظيفةً من النيكوتين.
المدخِّن في الهواء الطلق، لوحده في الخارج بعيداً عن الناس، لا حقَّ لنا في أن نزعجَه.
والمدخِّن في الداخل بين الناس، لا حقَّ له في أن يزعج الناس، ويَحُقُّ للناس أن يُظهروا إزعاجهم منه وامتعاضهم من فرْضه قرفَ الدخان عليهم، واضطرارِهم إلى الابتعاد عنه أو الطلب منه أن يبتعد هو عنهم.
وإذا كان بديهياً قولُ إن حريّة الفرد تنتهي عند حدود حريّة الآخرين، فلعلّ هذا القولَ لا ينطبق على حالةٍ، مثلما ينطبقُ على المدخنين الذين حُدودُ تَمَتُِّعِهم بالتدخين في حرية، تنتهي عندما تبدأ حرّيتهم تأسُرُ حرية الآخرين.
وهؤلاء الآخرون لن يَظلُّوا دائماً ساكتين، تَهذيباً، حين تغتصب حريتَهم فظاظة المدخّنين.