الحلقة 680: … بل الإقرار بالندم هُوَ هُوَ الفضيلة
(الأربعاء 27 شباط 2008)
في لحظةٍ من لحظات صحوةِ الضمير، تعترف زنوبيا، في مسرحية منصور الرحباني، فتُعْلِن ندمَها المُرّ على تَهَوُّرِها وتَسَرُّعِها وعنادها وكيديَّتِها وتشَبُّثِها الأعمى بأفكارها وقراراتها وتصرخ: :”أخطأْتُ في الحُكْم؟ أم انَّه الكرسي… يُنسيكَ أَصحابَك… يا حكْمُ كم تُنْسي”.
وإنها فعلاً لحظةٌ فريدةٌ من صحوة الضمير، حين يعلنُ المسؤول السياسيّ، حاكماً كان أم قائداً أم وزيراً أم زعيماً شعبياً، أنه بموقفه أخطأَ في الحُكْم، وتالياً يتراجعُ عن حُكْمه ويتّخذ موقفاً آخر ينسجم مع ضميره ومصلحة بلاده وشعبه وشعبيّته.
لكنَّ الحاصل عندنا، في هذه الأيام السوداء، أنّ مَن في الحُكْم، ومَن يرغبُون في الحُكْم، ومَن يطمحُون إلى الحُكْم، متشبّثون بِمواقفهم وأفكارهم، ولا يبدو أنَّهم يَرَون الفرق بين الشعب والشعبيّة.
الشعب أن يَخدموا كل الشعب في كل الوطن، والشعبية أن يَخدموا أزلامهم ومَحاسيبهم وقطعانَهم. وهنا الفرق بين رجل الدولة ورجل السياسة: رجلُ الدولة يعمل على خدمة الشعب، ورجل السياسة يعمل على أن تظلَّ تَخدمُه شعبيّته. رجل الدولة يعمل على ألاّ يَخسر الشعب، ورجل السياسة يعمل على ألاّ يَخسر شعبيّته. وهنا الفارق الجوهري الذي يَحصل اليوم: كل فريق مَحبوسٌ في شعبيّته لا في الشعب. ويريد ألاّ يَخسرَ شعبيّته لا الشعب، لأنه يعرف أنه، خارجَ شعبيّته، خاسرٌ هو الشعبَ حتماً، الشعبَ الذي ليس فيه مهيّصون ومعيّشون وقطعانيّون أغناميّون يسيرون وراءه ببغاوياً، بل فيه شعبٌ رافضٌ واعٍ غاضبٌ على مواقف هذا السياسي أو ذاك مِمَّن قادوا لبنان ولا يزالون يقودونه إلى مراعي قطعان الشعبية لا إلى مساحة كرامة الشعب التي من كرامة الوطن.
ذات يومٍ هلَّلنا لصحوة من ارتدوا عن المناداة بِهُويَّةٍ للبنانَ انتمائيةٍ إلى هنا أو هناك أو هنالك (خارج لبنان)، وارتدُّوا ينادون بـ”لبنان أولاً” وبـ”لبنان اللبناني”، فكانت تلك ارتدادتَهم إلى صحوة الضمير، والى الاعتراف بأنّهم أخطأُوا تِجاه شعبهم فربِحوا شعبيَّتهم وشعبهم معاً.
الاعتراف بالخطإ فضيلة؟ بل الإقرارُ بالندم هُوَ هُوَ الفضيلة.
والمطلوبُ اليوم: ارتدادةٌ إلى الضمير (أو إلى البقيةِ منه الباقية) للاعتراف بأنّهم أوغلوا في الانْحصار داخل مواقفهم، والانْحباس داخل شعبيّتهم، والمطلوبُ خروجُهم من الشعبيّة إلى الشعب، ومن التشبُّث بالموقف إلى التشبُّث بالوقوف، ومن التنافس في المزايدات إلى التنافس بالزيادات في خدمة الشعب والوطن والمصير، والانتقال من انتظار الأوامر بالـ”ريموت كونترول” إلى انتظار كلمة الشعب الذي لم يعد يَحتمل تأجيلاً ولا انتظاراً ولا طاولات حوار ولا تَمديد مواعيد انتخاب، بل ينتظر تلك اللحظةَ التاريخيةَ التي يُعلن فيها المسؤولون ندمهم على شراهتهم إلى الكرسي وإقرارهم بتَوبتهم إلى تراب الوطن قبل أن ينْزلق من تَحتهم هذا التراب.
وعندها يغفر الشعب لَهم زلاّتِهم القاتلة، وتصحُّ فيهم صرخةُ زنوبيا في الندم: “أخطأْتُ في الحُكْم؟ أم انَّه الكرسي… يُنسيكَ أصحابَكَ… يا حكْمُ كم تُنْسي”.