الحلقة 664: “الـزُّعَـمـا فَــلُّــو مـن لـبـنـان”
الأحد 30 كانون الأول 2007
يوم سمعتُها للمرة الأُولى من “صوت لبنان”، آثرتُ فيها جرأة غدي الرحباني في طرح هذا الموضوع الحادّ الذي يأكل من راحة اللبنانيين ويُقْلق مستقبلهم ويُهَجِّر أولادهم إلى أصقاع الأرض، وهي جاءت مُدَوِّيةً مُجَدَّداً بعد سابقتِها “شرشحتُو البلد أكتر ما شرشحتُوه” التي هي الأُخرى سرت في الناس علامةً من غدي الرحباني على الغضب المعتمِر في قلوب الناس.
غير أنني، ليلة الجمعة أول أمس، حين سمعتُها حيَّةً من الفرسان الأربعة (نادر خوري، سيمون عبيد، جيلبير جلخ، إيلي فياض)، وعاينتُ ماذا فعلَتْ في الناس حين هبُّوا يغنُّونها مع الأربعة الفرسان، كأنها هم، كأنهم هي، كأنها مكتوبةٌ منهم، كأنها مكتوبةٌ لهم، كأنها صرختُهم الدفينة، كأنها صوتُهم الجَماعي، كأنها غضبُهم الذي انفجر، أيقنْتُ أنْ وحده الفنّ يمكنه أن يستقطبَ الناس جميعاً، من كل مَشرَب ومذهَب واحتزابٍ وانتماء، ليكون لقمةَ الخبز التي يهددها سلوك السياسيين اللبنانيين في هذه الأيام، وليكون قاعدة منها ينطلق الغضب ليصل الصوت إلى أقاصي الضمير أو إلى مَن عندهُ منهم بعدُ بقيةٌ من ضمير.
“الزُّعَمَا فَلُّو من لبنان… كِبْرِتْ فينا فَرْحِتْنا”، ويصفِّق الناس في المطعم، ويغنُّون مع الأربعة الفرسان، ويردِّدون لا غناءً بل صرخةَ انتقامٍ من كل ما يَرَونه في نشرات الأخبار وفي عناوين الصحف من تصاريح السياسيين وتشاتُماتهم وكيدياتهم وأنانياتهم وشخصانياتهم وتهديداتهم ووعيدهم وعنيدهم واصطفافاتهم الخارجية وانتظارهم إشارات الـ”ريموت كونترول” من قريب أو بعيد، كأنّ الناس كانوا ينتظرون أغنيةً لينفجروا غضباً وانتقاماً وثورةً على سياسيّين يقودون لبنان إلى التفتيت بمواقفهم المتصلّبة العنيدة.
والى المتعة التي نثرها الفرسان الأربعة، طوال ساعتين ونصف من دون توقف، في سهرة لبنانية كاملة، لم يخالطْها غناء مصريٌّ ولا خليجيّ كما “يَقْعَنْسِسُ” المغنُّون في سائر المطاعم، كانت الصرخة من الفن الرحباني الجديد، الثائر الجديد، كأنها مقدمةٌ تشبه ثورة أهل “جبال الصوان” العنيدين الذين يسقط “مِدْلِجُم” على البوابة وتسقط “غربتُهم” على البوابة، ولا يسقطُ منهم شرف.
والذي رأى الأيدي تلوِّح في الصالة، عند مشاركتهم الغناء في “الزُّعَمَا فَلُّو من لبنان”، تلوِّح طرداً للّذين “فَلُّوا” كي لا يعودوا، تلوِّح طرداً كي يبتعدوا فلا يعودوا، تلوِّح طرداً للّذين سبَّبُوا ما سبَّبُوا ولم يبقَ لهم إلا أن يفلُّوا ولا يعودوا، يعرف أن الناس باتوا مشحونين بالقرف والرفض والغضب على مَنْ مِنَ السياسيين يُعقِّد الأوضاع أو يُجمِّد الأوضاع أو يعاند في الأوضاع، حتى بات لبنان، بسببهم، يسير إلى المُنْزَلَق الأخطر في تاريخه الحديث، ولا نرى من هنا وهناك، من زعماء دنيويين ودينيين، إلاَ من يَسأل ويتساءل ويَعجب ويستغرب ويناشد ويتمنى، والشعب رازحٌ تحت الخوف والقلق، وأمواج الهجرة لا تتوقَّف، ولبنان يَفْرَغ من دمائه الشابة، فلا يبقى في شرايينه إلاّ تصاريح سياسيين “يَتَعَنْتَرُونَ” أمام كاميرات التلفزيون، ثم ينامون مساءً هانئين مطمئنّين.
“الزُّعَمَا فَلُّو من لبنان” ليست أغنية شانسونييه عابرة، إنها بذرةٌ في أرضٍ خصبة يَسقيها الناس غضبَهم حتى يَجيءَ يومٌ تنفجرُ فيه على الذين في الهيكل يَتَشبَّثُون بشخصانيتهم وأنانيتهم وارتباطاتهم المشبوهة، وسوف يُسبِّبُون سقوط الهيكل على كلّ مَن فيه بلا استثناء.