الحلقة 660: عن أولاد فرنسوا الحاج وأولاد لبنان
(الأحد 16 كانون الأول 2007)
كنتُ على مدخل مسرح “راديو سيتي” في برودواي/نيويورك حين بلغني النبأُ الفاجع باستشهاد العميد الركن فرنسوا الحاج فهزّني سقوطُ ضابطنا الغالي، واجتاحني شعورُ أن أُعْرِضَ عن دخول المسرح، لولا التزامي بِـوَعْدِ أن أَدخُلَه مع حَفيدَيَّ لِمشاهدة العرض الميلادي الضخم المخصَّص أصلاً للأطفال في فترة الميلاد.
غير أنني شاهدتُ هذا الاستعراض الاحتفالي الكبير وأَنا مُشَلَّعٌ: عينٌ وعقلي يقدّر ضخامة هذا الاستعراض إنتاجاً وإخراجاً ومُمثلين وراقصين وتقنيين وموسيقييين مَجموعُهم 220 ليقدّموا العمل على خشبة هذا المسرح الفخم المكتظّ بِمقاعده الستة آلاف، في عرضٍ هو أحد ستة عروض يومية مكتظة منذ 20 تشرين الماضي، ومَحجوزٌ يومياً بعروضه اليومية الستة حتى نِهاية هذا الشهر، بينما عيني الأُخرى وقلبي مكتئب لرؤية مئات الأطفال في الصالة حولي مبتهجين بِهذا الاستعراض الرائع يفرحون ويغنّون مع “پاپا نويل” على المسرح ويضحكون لِنِكاتِه وحركاتِه، فيروح قلبي بالفكر إلى هناك، إلى أطفال لبنان المحبوسين بين قلق أهاليهم وخوف الذهاب إلى المدرسة خشية انفجار جديد يُوْدي بضحايا جدد.
عينٌ وعقلي على المسرحِ والأطفالِ حولي وحفيدَيَّ السعيدَين، وعينٌ وقلبي على أطفال لبنان المحبوسين في خوف أهاليهم.
ما ذنبُ هؤلاء الأبرياء أطفالِ لبنان لا يكونون سعداء في وطن سعيدٍ كسائر أطفال العالم السعداء في أوطانهم السعيدة؟
ما ذنبُهم أطفال لبنان؟ ذنبُهم أنّ في بلادهم من يتعاطون السياسة لا بضمائرهم بل بضمائر مؤجَّرة مأجورة مستأجَرة، وينفِّذون مُخططات عرقلة من هنا وهناك، وآخذون كلَّ وقتهم ليؤخِّروا ويستأْخروا ويتأخَّروا في خياراتِهم وقراراتِهم.
عينٌ وعقلي في الـهُنا والبهجةُ تغمر عيونَ حفيدَيَّ وعيونَ الأطفال حولي في هذا المسرح النيويوركي الشهير، وعينٌ وقلبي في الـهُناك والغصّةُ تغمر عيون أطفال بلادي هناك، وبينهم أطفالٌ في لبنان باتوا بلا أبٍ يَحمل إليهم بَهجة عيد الميلاد.
عينٌ وعقلي على مسرح “راديو سيتي” في برودواي، وعينٌ وقلبي على مسرح جريمةٍ يتّمت أطفالاً عشية عيد الميلاد، وأخافت أهالي أطفال بلادي وأفسدتْ عليهم بَهجة العيد.
عينٌ وعقلي مع حفيدَيَّ اللذين يكبَران مع أترابِهما في بلادٍ لا يسمعون فيها أصوات انفجارات تُخيفهم، ولا يسألون أسئلةً فيها القلقُ والخوفُ والرعبُ والاستفهام القلِق، وعينٌ وقلبي مع أطفال لبنان: يسمعُون ولا يفهمون، يَرَون ولا يفهمون، ويسألون أسئلةً يهرب من الجواب عنها أهلُهم الواقعون تحت الخوفِ من انفجار جديد، والقلقِ على مستقبل الوطن، والقرفِ من السياسيين، والغضبِ على ساسة البلاد، واللعنةِ على القدر اللبناني، والشتيمةِ على من لا تزال عندهم وقاحةُ التصريحات بالكلمات المعلوكة نفسِها، والتصاريح الكرتونية نفسِها، والمواقف الدونكيشوتية المتوتِّرة الموتُورة نفسِها.
عينٌ وعقلي فلم أشاهدْ الاستعراض كما يَجب، وعين وقلبي فلم أغضَب للجريمة كما يَجب.
لكنني، ذات يوم، سأُخاطب أولادَ فرنسوا الحاج وأترابَهم أولادَ لبنان، وأُكملُ لَهُم بقيَّةَ الغضب.
كنتُ معكم من برودواي (مانْهاتَن- نيويورك)، إليكم بيروت.