الحلقة 651: اكتشافُ بَحر صُوْر بين كراكوڤ ووارصُو
(الأربعاء 14 تشرين الثاني 2007)
في القطار من كراكوڤ إلى وارصُو (مواكَبَةً لـ”كورال الفيحاء” التي شارَكت في المهرجان الدولي للجوقات الكورالية ونالت، باسم لبنان، الجائزة الأُولى على 24 جوقة من مختلف دول الغرب) كان أحد رفاق الرحلة في مقصورة القطار: عضو اللجنة التحكيمية الدّولية في المسابقة، الإيطالي البروفسور أندريا أنْجيليني، وهو عالم كبير في الموسيقى.
استهللتُ معه الحديث عن المشْتَرَكَات بين لبنان وإيطاليا، فاستهلّ الكلام بقوله إن كتيبةً من جيش بلاده تشارك في اليونيفيل لِحفظ السلام في جنوبي لبنان. قلتُ له إن هذه حالة راهنة عابرة. فقال إنّ ما يَجمعنا أيضاً كونُ بلدَينا على ضفاف حوض البحر الأبيض المتوسط. فاستغْلَلْتُ كلامه على المتوسط لأقولَ له إنّ قسماً من شَطّ إيطاليا على هذا البحر يحمل اسم مدينة عريقة من لبنان. استفهم، فسألتُه: “ماذا يسمّون البحر الأبيض المتوسط على الشاطئ الغربي من إيطاليا”؟ فأجاب: يسمُّونه “مارِه تيرّينو (Mare Tirreno)”. سألتُه: “ما الـ”مارِه”، فقال “بَحر”. و”تيرّينو”؟ فقال: “هذا ما لا أعرفه. نشأْنا نعرف أنه يسمى “مارِه تيرّينو” على المقلب الغربي من إيطاليا بين توسكانا وآخر الجنوب ويشمل أيضاً جزيرتي صقلية وسردينيا. لم نسأل يوماً ولم نعرف، ولا أظُنُّ كثيرين في إيطاليا يعرفون تبرير كلمة تيرّينو”. هنا قلت له: “ركِّزْ معي لأقول لك ما لا تعرفه في بلادك. إن هذه الجهة الغربية من شط بلادك الإيطالي تسمى بحر صُوْر. صُوْر في الإنكليزية “Tyre”، وفي الفرنسية “Tyr”، فما هي في الإيطالية”؟ قال: “تيرو”. والنسبة إلى تيرو؟ قال: “تيرّينو. لكننا نعرف أن مدينتكم صُوْر مدْمَجةٌ في ذاكرتنا باسمٍ آخر: سيدُونِه، ودرسناهما على أنهماTiro (تيرو) وSidone (سيدونِه)، فما علاقتُهما ببحرنا”. قلتُ له: “صحيح. والمؤرخ الفرنسي بيار هوباك يؤكد أنّ صور وصيدا كانتا ذات فترة كلّ تاريخ العالم. والبحر المتوسط اليوم كان يسمّى “بحر فينيقيا ذا الجلالة”، بسبب التجارة بين شط لبنان وشط إيطاليا، فسُمّي الشط الإيطالي الغربي “بَحر صور” تَيَمُّناً وانتساباً، لِما كانت عليه صُوْر من جلالة وعظمة وتراث فينيقي عظيم. وها التسمية – أضفت لِمُحَدّثي الإيطالي- انتقلَت من تلك الأيام الفينيقية إليكَ اليوم، إلى السنة السابعة من القرن الحادي والعشرين، وها أنت وأبناءُ جيلك تعرفون تسمية “مارِه تيرّينو” ولا تعرفون أنها نسبةٌ إلى “بحر صور”. فانشرح البروفسور الإيطالي وقال: “سأعود إلى بلادي وأنشر في أوساط أصدقائي ومعارفي وطلابي هذا الخبَر”. فصحَّحتُ له: “هذا ليس خبَراً. هذه حقيقة تاريخية حين يعرفها أبناء وطنك يعرفون أن وطني لبنان ضالعٌ في تاريخ إيطاليا وجغرافياها”.
وحين أضفتُ أنّ للبنان علاقةً تاريخيةً أخرى بإيطاليا (أقربَ عهداً من الحقبة الفينيقية) هي خمسُ سنواتِ فخرالدين العظيم في توسكانا، وحَمْلُهُ معه الهندسةَ المعمارية التوسكانية لدى عودته إلى لبنان (قرميداً، وقناطر، وشرفاتٍ، في بيوتٍ باتت بعض جمال الوجه اللبناني المعماري) انشرح البروفسور أنْجيليني مُجدَّداً، فركّز جِلسته وقال: “إن هاتين المعلومتين كافيتان لأُصمم جدّياً على المجيء إلى لبنان”. فبادرتُه: “ستجيء إلى لبنان، وسأستقبلُكَ في لبنان، وأصطحبكَ إلى صُور العظيمة، والى بعقلين، بلدةِ فخر الدين العظيم، والى مناطقَ رائعةٍ ترى فيها بيوتَ لبنان المتأثّرةَ بالهندسة المعمارية التوسكانية. وحين نتعبُ من تجوال، نرتاح فِي فَيْءِ زيتونةٍ مباركة تشعر تحتها أنك في بلادك، لأنها قد تكونُ حفيدةً لزيتونةٍ جاء بها فخر الدين من زيتون توسكانا إلى أرض لبنان”.
كنتُ معكم من العاصمة الپُولونية وارصُو. إليكم بيروت.