الحلقة 635: “من هوية البطاقة الى هوية المواطنة”
(الأربعاء 19 أيلول 2007)
لا يزال اللبنانيون، كلما اجتمع اثنان منهم، يتناهشون الحوار السياسي بين فريقَي الوطن: 14 آذار أو 8 آذار.
هكذا اختزلَ الناسُ اصطفافَهم: بين 14 آذار و 8 آذار، ناس “مع” وناس “ضدّ”، ومَن ليس “مع” فهو حتماً “ضدّ”.
كأنما لم يعُد مكانٌ للوعي والحرية والحكمة والخروج من هذا الاصطفاف. كأنما أصبح غريباً لدى العامة من الناس أن يكون المواطن لا من 14 آذار ولا من 8 آذار، ولا في أيٍّ من هذه التشكيلات الطائفية المذهبية الحزبية السياسية المناطقية التي أراد السياسيون بواسطتها أن يجعلوا الناس قطعاناً تنقاد لهم عميانياً أغنامياً تعييشياً تهييصياً بدون إرادة ولا رأْي ولا صوت.
هكذا اختزل السياسيون أنصارهم وأزلامهم، وهكذا يُحرِّضونَهم، وهكذا يغسلون أدمغة الناس بطروحاتٍ، منها المغلوط ومنها المأجور ومنها المفخَّخ ومنها التسريبِيّ المؤذي حسَّ المواطنية الحرَّة عند المواطنين. وهكذا باتت بطاقات الهوية بين أيدي الناس مُجرَّدَ أرقامٍ تُراكِمُ أعداد الأصوات يوم الانتخاب وأيام الحاجة الى مظاهرات هؤلاء الأزلام والمحاسيب، والى يافطاتٍ يرفعونها صارخين “بالروح بالدم نفيدك يا…”.
نعم. هكذا نزع السياسيون صفة المواطنية عن بطاقة الهوية، لتصبح رقماً في حساباتهم و”بوانتاجاتهم” الانتخابية.
وهكذا تَخلخل ميزان المواطنية جرّاء خلخلة القاموس السياسي الذي يستخدمه السياسيون، فيقولون “الطائف” بدل أن يقولوا “الدستور اللبناني”، ويقولون “الشارع” أو “الساحة” بدل أن يقولوا “الوطن”، ولا يقولون “الحياة اللبنانية الواحدة” بل يقولون “العيش المشترك” أو “التعايش” كأنما تقزَّمت الحياة في لبنان الى مجرد “العيش” المشترك. و”العيش” هنا بمعنى الأكل أو الطعام أو تقاسُم الخبز وكأنّما تقزَّمت الحياة في لبنان الى “تعايُش” بين قبائل أو طوائف أو أقوام متنافرين اصطلحوا على أن يعيشوا مع بعضهم البعض، وربما مؤقتاً، تحت سقف وطن واحد.
يا عار هذه التسميات في وطنٍ واحدٍ شعبُهُ واحدٌ وحياتُهُ واحدةٌ لكن سياسييه متنافرون وأزلامهم متنافرون على صورة أسيادهم السياسيين. ويا عار أن يتقزَّم الوطن من شعبٍ واحدٍ ذي مواطنين أحرار، الى أزلام ومحاسيب وأنصار منقادين فئاتٍ وجماعاتٍ ومجموعاتٍ اصطفافية وراء هذا أو ذاك أو ذلك من القادة والزعماء والسياسيين، غير مدركين أن سياسييهم هؤلاء لا يَملكون قرارَهم بل معظمُهم واجهةٌ لأنهم مرتبطون بمن وراء الستارة، ومعظمهم يقولون ما يقوله رئيس كتلتهم النيابية، ورئيس كتلتهم النيابية بدوره لا يملك قرارَه بل قرارُه مرتبط بما وراء الستارة أو الحجب أو كلمة السر.
بلى… هكذا جعل السياسيون مواطنينا حملة بطاقات هوية اصطفافية لا حرة، فبات المواطنون أزلاماً مَحسوبين وليسوا، في معظمهم، أحراراً يرفضون هذا وذاك وذلك من الزعماء والقادة والسياسيين.
ولن نخرج من هذا الوحل الطاغي إلاّ حين يقول المواطن اللبناني “لا” للاصطفاف وراء هذا أو ذاك أو ذلك من السياسيين، وينتفضُ ليحملَ في يده هذه التي لا تعود هوية بطاقة عدد بل تصبح بطاقة هويةٍ مواطَنَة. وشرط المواطَنَة: حرية الرأي وحرية الموقف وحرية إنزال الكرسي عن أكتاف المواطنين كي يسقطَ عنها هؤلاء الجالسون على الكراسي.