من رسائلهم الى رسالاتهم (2/2)
الجمعة 1 كانون الثاني 2010
– 629 –
من رسالة غِيُّوم أَپُّولينير الى حبيبته “لُو” وما تضمَّنتْه (غيرَ بثّ الحب) من أفكار عن الشعر والشعراء (“أزرار 628”) تَبرز مَجموعة أسئلة: الى أيّ مدى تسهم “الكتابة الرسائلية” في رسم شخصية كاتبها أو تلك المرسلة إليه؟ والى أيّ حدّ يبسط كاتبُها نفسه ونفسيته، كما هي، في الرسالة من دون زيادة يضفيها على شخصيته؟ وهل “أنا” الكاتب هي دائماً في نصه الإبداعيّ، أم انه يكشفها في شخصيته “الرسائلية” فيَبُثّ من خلالها ما يريد قوله؟ وهل يمكن الرسائل أن تشكّل أثراً أدبياً أو فناً أدبياً مستقلاً؟
بيار كُودِرلُو دو لاكْلُو (1741-1803) بنى رائعته الروائيّة “العلاقات الخطرة” (1782) على 175 رسالة بين أشخاص الرواية، ظهرت فيها أفكارهم وأعمالهم ورغباتهم “الحميمة”، فأتى بـ”رواية رسائلية” كاملة تَلَبَّسَ كلامَ شخصياتها ليُوصلَ كلامه.
وهذا إميل زولا (1840-1902) ينشر في جريدة “لُورُور” (13/1/1898) مقالاً طويلاً من 4000 كلمة بعنوان “إني أتّهم” كان رسالة الى رئيس الجمهورية فليكس فور ودافع فيها عن قضية الكاپتن ألفرد دريفوس فوضع في رسالته أفكاره وأفكار الأوساط الفرنسية ولم يقتصر فيها فقط على الإِخبار، فباتت رسالته اليوم شهادة أدبية وسياسية على ذاك العصر.
وهذا مونتسكيو (1689-1755) ينشر “رسائل فارسية” (1721) من الفارسيَّين أوزبيك وريكا الى أصدقائهما في بلاد فارس يرويان إقامتهما ثماني سنوات في باريس، ويفصِّلان مشاهداتهما عن العادات والتقاليد ومزايا المجتمع الفرنسي عصرئذ، فجاء الكتاب يومياتٍ في شبه “رواية رسائلية” أسهمت في أن تكون الرسائل مادة أدبية عامة أوسع من مجرد مخاطبة فردية أو ثنائية.
وهذا وجهٌ آخر من ڤيكتور هوغو (1802-1885) شاعر عصرٍ فرنسيّ كاملٍ بشخصيته المهيبة وصوته الهادر ينقلب عاشقاً رقيقاً في رسالة الى ليوني بِيار: “السبت الساعة 3:00 فجراً – … مع هذه الرسالة أُرسل إليكِ وردة قطفتُها لك. ستَصِلُكِ ذابلةً إنما عطرها باقٍ فيها. إحفظيها لديكِ، وأَريني إياها بعد ثلاثين سنة. فبعد ثلاثين سنة ستظلّين جميلةً، وسأَبقى أُحبُّكِ، وسنبقى عاشقَين كما نحن اليوم. أليس كذلك يا ملاكي؟ وسنشكر الله على حبّنا ونحن جاثيان! غداً هو الأحد. نهار كامل ولن أراكِ، ولن أُعطاكِ حتى الاثنين. ماذا سأفعل من الآن الى الاثنين؟ سأفكّر بكِ، وأُحبُّكِ، وأُرسل إليك قلبي وروحي. من جهتكِ أنتِ: فقط كُوني لي. الى اللقاء الاثنين. الى اللقاء دائماً، الى الأَبد”.
ومن مراسلات ڤان غوخ (1853-1890) الصادرة كاملةً (902 منه وإليه) في ستة أجزاء ضخمة والمعروض منها حالياً (لدى متحف ڤان غوخ في أمستردام) 120 رسالة الى أمه وشقيقه ليو وزملائه الفنانين، يبدو هذا الرسام الهولندي أديباً من مستوى عالٍ لم يكن لينكشف لنا من لوحاته وحدها لولا تلك الرسائل الشخصية (من 1872 حتى تاريخ انتحاره).
وفي رسالة جان پُـول سارتر (1905-1980) الى إدارة جائزة نوبل (1964) شرَحَ رفْضَه الجائزة في نظريةٍ فكرية فلسفية سياسية إنسانية عقائدية لم تظهر بـهذا التبسيط في مؤلفاته الفلسفية والأدبية فظهرت في الرسالة.
وفي المراسلة الطويلة (1904-1931) بين جبران خليل جبران (1883-1931) وماري هاسكل (538 رسالة منه إليها ومنها إليه، جَمعتْها ڤيرجينا حلو في كتابها “النبي الحبيب” ومعها “يوميات ماري هاسكل الحميمية”)، انكشفَت لنا شخصية جبران الحقيقية كما لم يكن مُمكناً لنا أن نعرفه بـها (ونقرأه أفضل) لولا ما ورد من بثّ شخصي وحميم في رسائله.
علامة الرسائل، إذ يكتبها مبدعون، أن تكون مرآتهم حين ليسوا أمام نصهم الإبداعي، يبسطون فيها ذاتهم الحميمة التي يُخفونها في نصوصهم الإبداعية فتظهر في رسالة كتبوها معتبرينَها آيلةً فقط نحو المرسَلَة إليهم، لكنها تنكشف لاحقاً فتكشف لهم أو عنهم لحظاتٍ من حياتهم كانت حميمَةً شخصيةً خاصةً في صيغة رسائل فباتت الى القراء مفتوحةً عامةً في صيغة رسالات.